انضمام الجزائر إلى بريكس: خيار استراتيجي؟
تحدّث الرّئيس الجزائري عبد المجيد تبّون، في لقائه مع الإعلام أخيرا، عن مشروع انضمام بلاده إلى "بريكس"، وهي منظّمة ذات بعد اقتصادي في المقام الأوّل، وهذا جدّ حيوي، نحتاج معه إلى تقدير موقف لهذا الخيار في قراءة استراتيجية بحتة له.
بداية، يجب وضع عبارة الرّئيس في سياقها الحقيقي، إذ إنّ العلاقات مع الشُّركاء الآخرين، خصوصا الاتحاد الأوروبي، هي في أزمة منذ مدة طويلة، تعزّزت مع مطالبة الجزائر بضرورة مراجعة اتّفاقية الشّراكة، من ناحية، وخروج بعض الشُّركاء الآخرين، على غرار إسبانيا، من ناحية أخرى، عن خطّ علاقاتٍ كان يُوصف بالاستراتيجي، ما فتح الباب واسعا، إذا أضفنا إلى ذلك التوتّر في طبيعة العلاقات المتأرجحة بين الجيّد والسيّئ مع فرنسا، أمام خيار البحث عن شراكات جديدة تساعد الجزائر على تحقيق مكاسب من سعي دول كثيرة إلى إعادة التّموضع في خريطة العالم التّي تجرى إعادة تشكيلها على خلفيّة ثلاث أزمات متلاحقة، هي عالم ما بعد الجائحة، الحرب الرّوسية - الأوكرانية وتداعياتها على ملّفين حيويّين، الطّاقة والأمن الغذائي.
من المشروع أن تبحث الجزائر عن تموضع في هذا الإطار، خصوصا أنّها انتقلت من وضع دولة ريعية إلى إمكانية التّأثير بالغاز، بصفة خاصّة، على ملفّاتٍ كثيرة في الإقليم الذي يغطّي، باعتباره عمقا استراتيجيا للجزائر، غرب المتوسّط والمنطقة السّاحلية – الصّحراوية، وهي منطقة شاسعة كما نرى، والفاعلون فيها تترواح مصالحهم بين إرادة الحفاظ على مكانة القوّة (الاتّحاد الأوروبي، الناتو، القوى العظمى) والبحث عن مكانة جديدة (فرنسا، ألمانيا، تركيا، إيطاليا، إسبانيا)، أو إعادة التموضع بما يخدم خيارات الاستفادة من عملية إعادة تشكيل العالم والمنطقة، بصفة خاصّة، وهي حالة الجزائر، الآن، بالإمكانات التي ستؤشر إليها المقالة، خصوصا على المستوى الطّاقوي.
تسعى الجزائر إلى جعل روما مورّدا أساسيا للغاز إلى الأوروبيين، بمضاعفة الكمية، والعمل الاستكشافي الذي سيضيف إلى المخزونات كمّيات أكبر
العلاقات مع الشُّركاء الحاليين، على المستوى الاقتصادي، هي القاطرة التي تريدها الجزائر لتقود نحو الكشف عن مؤهّلاتها لتبوّؤ مكانة أهمّ من التّي تُوجد عليها، لم تعد تفي بالغرض ولا تسمح، في آن، على المدى المنظور، بتحقيق استراتيجية إعادة التموضع التي أضحت حيوية، ودونها التردّي في متاهة الاستدانة الخارجية، إعادة الهيكلة الاقتصادية، والارتداد إلى وضع استراتيجي أقرب إلى الفشل (بالمعنى الاستراتيجي). ولهذا، فتحت الجزائر أكثر من ورشة استراتيجية، بدأتها بتعيين مبعوثين لملفّات ذات صلة بدوائر تأثير الجزائر المستقبلي، إضافة إلى مواقف من أزمات العالم الحالية، وخصوصا الطاقوية منها، بتحويل بوصلتها نحو إيطاليا للشّراكة المستقبلية ارتكازا على مورد بات الهدف الأسمى للأوروبيين، وتسعى الجزائر، من خلاله، إلى جعل روما مورّدا أساسيا للغاز إلى الأوروبيين، بمضاعفة الكمية من ناحية، والعمل الاستكشافي الذي سيضيف إلى المخزونات كمّيات أكبر، على المدى القصير، من ناحية أخرى، من دون إغفال الخطوة الاستراتيجية بتوقيع الاتّفاقية المجسّدة لبناء خط الغاز المنطلق من نيجيريا مرورا بالنّيجر وصولا إلى الجزائر، لتكون اللّبنة الأكبر في مسار بناء تلك القوّة والتّجسيد الفعلي لذلك التموضع الجديد.
يُعدّ ما سبق ذكره ديكورا لما سيأتي بالنّسبة للفوائد المرجوّة من إمكانية/ إرادة انضمام الجزائر لـ"بريكس"، حيث ترتجي تحقيق مكاسب كثيرة، ربّما يكون الأساس فيها ثلاثة أهداف محورية، يكون أولها ذا صلة بإعادة التموضع الحيوي والاستراتيجي الذّي جاءت السطور أعلاه على ذكره، وهو حتمية عادلة في لعبة إعادة تشكيل للعالم والإقليم تختار الجزائر النّأي بنفسها، من خلالها، عن خيارات شرق أوسطية، منها مسار الاتفاقات الإبراهيمية ذات المضمون التطبيعي مع الكيان الصهيوني، والاستعاضة عنها بخيار آخر، جزء منه موجود منذ عقود، ستمثل في علاقات مثالية مع قطبي "بريكس"، وهما الصّيـن وروسيا، وهي خطوة موازنة لخطواتٍ تجري على الحدود الغربية للجزائر اقترب بها الكيان من الجزائر، من خلال قاعدة عسكرية وصناعة دفاعية متطوّرة مضافا إليها اتفاقية دفاعية/ أمنية مع الكيان، بل وتنسيق متصاعد في تلك الميادين، يبدو أنّه يستهدف تهديد الجزائر والعودة، في العلاقات المتوتّرة بين الجارتين الجزائر والمغرب، إلى مؤشّر التّفوّق العسكري والتّنافس الاستراتيجي في المنطقة. ولكن، هذه المرّة، بأدوات جديدة تناسب الفترة التي نحن على أعتابها، اختارت كل منهما (الجزائر والمغرب) مسارا متناقضا لشراكاتها المستقبلية.
معضلة ذات طبيعة مالية تعاني الجزائر منها، وهي ضرورة تسعير النّفط (والغاز) بالدّولار الأميركي، في حين أنّ الاستيراد يجرى، بصفة أساسية، باليورو
يتمثّل الهدف المحوري الثّاني في مسار خيار الانضمام لـ"بريكس" في تحدّي تحويل المؤشّر الريعي إلى أداة تأثير في الإقليم (العمق الاستراتيجي) تعزيزا لمكانةٍ كانت الجزائر من المحتمل أن تحتلّها، لولا ظروف سياسية داخلية حالت، في العشرية السابقة، دون الوصول إلى تجسيدها. ترتكز تلك الخطوة على التّموضع الجيّد والمتوافق مع مبادئ الأهداف الاستراتيجية، من ناحية، ومع تحوّلات السوق العالمي للطاّقة، من ناحية أخرى، خصوصا في منطقة المتوسّط (شرقيّة وغربيّه) التي ستصبح، حتما، في العقد المقبل، محور الاعتماد الطّاقوي الأوروبي في أفق الاستقلال عن التّبعية للطّاقة الروسية (هناك قرار أوروبي بحظر استيراد الغاز والنفط من روسيا يجرى تطبيقه تدريجيا).
تمكن الإشارة، هنا، إلى معضلة ذات طبيعة مالية كانت الجزائر تعاني منها، وهي ضرورة تسعير النّفط (والغاز) بالدّولار الأميركي، في حين أنّ الاستيراد يجرى، بصفة أساسية، باليورو. وقد دفع سعر الصّرف المتذبذب بين العملتين، لصالح اليورو، أعواما، إلى خسارة الجزائر مبالغ ضخمة قد تسمح لها الظروف الجديدة للسّوق العالمي (تسعير الغاز الرّوسي بالرّوبل واتّجاه "بريكس" إلى استراتيجية استخدام العملات الوطنية في التّبادلات التجارية، بعيدا عن العملات الأساسية، وهي الدّولار الأميركي، اليورو، الجنيه الإسترليني) من ربط التّسعير بسلّة عملاتٍ تكون في فائدة مؤشّرات السُّوق الجزائري وتوازناته مع الدّفع بهدف محوري وأساسي إلى واجهة العمل المحوري، وهو ربط المؤشّر الرّيعي وتحولّاته باستراتيجية أمن غذائي وتحويل للتكنولوجيا باعتبارهما أساسين لاقتصاد متحوّل تماما في المدى المتوسّط (أفق 2030).
أمّا الهدف المحوري الثّالث فله صلة بما يجري الآن في الاقتصاد العالمي، والمتعلق، أساسا، بتبعية الجزائر لتذبذبات السّعر العالمي للقمح، مع تداعيات الحرب بين روسيا وأوكرانيا، اللتين هما من أكبر مصدري هذه المادة الاستراتيجية، حيث تعلّمت الجزائر الدرس، وتعيد، الآن، فتح دفاتر الاستراتيجية الجزائرية القديمة، عندما كانت البلاد سلة غذاء المتوسط، وتعتمد على تحويل إيرادات تحولّات السّوق الطّاقوي العالمي إلى أداة لتحقيق الأمن الغذائي. ولكن، بالاعتماد، على المدى المنظور، على علاقات متينة مع روسيا، الفاعل الأساس في سوق القمح العالمي، ما يفتح الباب، على مصراعيه، لتفعيل تلك الاستراتيجية الأمنية المحورية.
المكاسب من إرادة الجزائر الانضمام إلى "بريكس كثيرة وكبيرة، وبالتّالي، يجب أن يكون مسار هذا الفعل مشفوعا بقرارات استراتيجية
تلك هي أهداف خيار الجزائر الاستراتيجي بالسّعي إلى الانضمام إلى "بريكس"، برفقة مرشّحَين آخرَين لهما الأهداف نفسها، وهما إيران والأرجنتين، ما سيجعل من خيار الجزائر فعلا استراتيجيا فاعلا، وليس مأزقا استراتيجيا كما أراد محلّلون أوروبيون إبرازه عندما طُلب منهم التّعليق على إرادة الجزائر الانضمام إلى التّجمُّع، مركزين على المستقبل في الجوار الجغرافي القريب، أي الاتحاد الأوروبي، متناسين، عمدا، أن القطب الأوروبي يعامل جواره باستقطاب، جاعلا من الإدراك الأمني والتهديد القادم من الضفة الجنوبية الرُّؤية الوحيدة المتاحة الممكنة لعلاقات كلها خسارة للمغاربيين، ومكاسب تامة له، وكأنه يعيش فترة استعمار جديد بمعايير جديدة ومفاهيم يصنعها وحده دون الآخرين.
هناك، في المقابل، إشكالية كيف نحوّل هذا الخيار إلى فعل استراتيجي، وليس إلى فعل مرتبط بهدف تكتيكي لمواجهة تحديات آنية؟ الحقيقة أنّ المكاسب من إرادة الجزائر الانضمام إلى "بريكس"، كما قدمت السطور أعلاه، كثيرة وكبيرة، وبالتّالي، يجب أن يكون مسار هذا الفعل مشفوعا بقرارات استراتيجية، على أكثر من مستوى، تسبق، ترافق، ثم تكون لاحقة لخيار الانضمام، وهو ما يستشفّ من كلمات الرئيس بهذا الشأن ويقوّيه، حقّا، أنّ الإقليم والمنطقة مقبلان على تحدّيات لا يمكن للجزائر أن ترفعها من دون الاعتماد على تحالف يكون بحجم فاعلين دوليين، هدفهم وضع خريطة جديدة للعالم، يكون التموضع فيها جدّ حيوياً، وبخاصّة إذا كان هذا التموضع معتمدا على مؤهّلات في مستوى ما تملكه الجزائر، إضافة إلى رصيد البلاد من تجارب في حلّ الأزمات وموقعها من خريطة التحوّلات، خصوصا الطاقوية منها، مستقبلا.
أمّا الإشكالية الأخرى فلها صلة بالعلاقات الاستراتيجية مع الاتّحاد الأوروبي، هل تكون في تصادم مع الشّراكة الجديدة مع "بريكس"، أم أنّها تكون بدلا عنها؟ وفي حالة ثالثة، هل تكون الشّراكة مع "بريكس" محفّزاً لتغيير توازنات العلاقات مع الاتّحاد الأوروبي وذراعه العسكرية، حلف الناتو؟ إنّها أسئلة حيوية تكون خلفية لإرادة الجزائر بالانضمام إلى "بريكس"، وحُقّ لها أن تكون كذلك، لأنّ الهدف هو التموضع في خريطة عالم يُعاد تشكيلُه، والمكسب، كلّ المكسب، في البحث عن موقع فوق هذه الخريطة، وبفعل استراتيجي وشراكات تكون هي الأفيد للجزائر، وللإقليم أيضا.