انفجار المرفأ ينْعش ذاكرة الحرب الأهلية
منذ أيام، جمعَ المشهد تاريخين. أمهاتٌ وآباءُ، زوجات وأخوة، يحملون صور أحبائهم الذين قضوا في انفجار المرفأ قبل سنة. وإلى جانبهم، نساء ورجال، بالصفة نفسها، يحملون صور أحبائهم المخْتفين قسراً خلال الحرب الأهلية، منذ 39 سنة. وقد أسّسوا لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين بعَيد الإجتياح الاسرائيلي، بمبادرة من وداد حلواني، زوجة شيوعي بارز، كان من واحداً منهم.
وإذا دققتَ في ملامح أهالي أصحاب الصور، فسوف تلاحظ كيف تتطوّر الوجوه في ظل مأساة متمادية: بين تلك التي حفر فيها الأسى خطوطاً عميقةً سميكة، وتلك التي بدأت تخطو أولى خطواتها نحو نحْتها بها. وجوه شابّة نَدِية، ترى مستقبلها في الوجوه الأقدم منها، الغارقة في مأساة مزْمنة من الفقدان واستحالة الحِداد، وامتناع الحق من الظهور.
أصحاب الحق المهدور الأول لم يجدوا في نهاية الحرب أي نية حكومية، أو قرار، بجلاء مصير أحبّتهم، ومحاكمة جلاديهم. إتفاق الطائف الذي على أساسه انتهت هذه الحرب لم يعطِ ولو إشارة واحدة حول الموضوع. في أحد بنوده، يقول الاتفاق بحلّ المليشيات المسلحة، من دون إرغامها على تقديم معلوماتٍ عن الأشخاص الذين اختطفتهم في أثناء الحرب. مع إعفاء مليشيات حزب الله من هذا الحلّ، على أساس "مقاومة العدو الإسرائيلي"..
اعتقد المجرمون أن النسيان الأبدي طمرَ أسماء المخطوفين والمفقودين وكل القتلى الفرادى المبعْثرين.
وكان شعار المرحلة "انسوا الحرب.. انسوا ويلاتها.."، وعزفًا على لحن "السلام الاجتماعي"، وعلى كون أي حديث عن ذيول الحرب، عن إرثها، وقضية الـ 17000 مخطوف، سوف يعيدنا مجدَداً إلى وَيْلات الحرب الأهلية. "عيشوا الآن. انسوا. انسوا"، فنسي اللبنانيون، وغاصوا في بحور "حب الحياة" و"التكيّف العبقري"، حتى الثمالة.. حتى صار وزير داخلية يتودّد لرئيس الجمهورية، يعترف له بأنه، في أثناء الحرب الأهلية، قتلَ "اثنين"، نفهم أنهما رجلان مجهولان.. قد يكونان في عِداد المخطوفين الذين يسأل عنهم أهلهم منذ عقود. ويضيف أن الرئيس منحه صك الغفران، ويضحك مثل أبله فاتَه حبْل المشنقة.
المهم أن اللبنانيين عاشوا منذ نهاية الحرب الأهلية تحت حكم نوعين من "الكيانات": زعماء مليشيا سابقين. لم يعتذروا حتى عن جرائمهم وسرقاتهم، أو أيٍّ من آثامهم. فقط زعيم مليشيا واحد، فعلها. وغالبا توسّلاً لقوة معنوية تعوِّض عن ضعفه، وقتها. مع الإبقاء على سلاح حزب الله، الناشئ، كما أسلفنا. ما سمح لهذا الحزب بأن يتغذى بمليشياوية من سبقوه، فوق مليشياويته العقيدية. ويكون بذلك الوارث الطبيعي لمليشيات الحرب الأهلية. أما "الكيان" الثاني فسياسيون جدُد، ارتضوا الشراكة مع زعماء المليشيات، فكانوا شياطين خرسان، ينعمون بهذه الشراكة، بقسمة الأدوار والأرباح. في الآن عينه، يلعبون دور المحتجّين على السلاح، وعلى نخر الدولة .. إلخ. فيما اللبنانيون يحبون الحياة، وينسون..
ثم حصل انفجار المرفأ، فعدنا إلى تذكُّر ما يناظره. وقد تجلى بأفْصح أوجهه في التظاهرات المشتركة بين أهالي المخطوفين والمفقودين خلال الحرب الأهلية، وبين أهالي ضحايا انفجار المرفأ. والاثنان اختبرا الحُكم الذي توّج واحدة من محطات مسيرته ذاك الانفجار.
الآن، أهالي ضحايا الانفجار يطالبون بالتحقيق الشفّاف والنزيه للكشف عن المجرمين الذين ضيّعوا حياة أحبائهم وأرزاقهم ومستقبلهم كله. وأمرٌ في غاية الوضوح: الزعماء أنفسهم الذين ارتكبوا جرائم حرب، وصعدوا إلى الحكم، مطلوبٌ منهم ومن شركائهم الشياطين الخرسان، الكشف عن مسؤوليتهم في انفجار المرفأ. وهذا طبعا، لن يحصل، طالما أنهم ما زالوا في الحكم.
وقد بيّنت الإشارات الأولى على مطلب الكشف هذا بأن المسار سيكون شبيهاً بذاك الذي سلكته قضية المخطوفين والمفقودين في أثناء الحرب الأهلية. المحقق العدلي، طارق البيطار، أصدر قراره باستدعاء وزراء ونواب وموظفين كبار في الأمن العام، ففرح الأهالي لهذا القرار، وصاروا يلاحقون "رفع الحصانة" عن المطلوبين من أولئك المسؤولين.
لن ينكشف المجرمون والمتورّطون في جريمة المرفأ إذا لم ينكشف الذين خطفوا ونكّلوا وقتلوا في أثناء الحرب الأهلية
كبيرهم، حسن نصر الله، أعطى إشارة البدء باللعب على قرار المحقق العدلي: إنه "مسيّس"، قال، لا يستحق الاحترام. .. فأطلق الكورس نشيده. نواب البرلمان نسفوا طلب رفع الحصانة عن المستدعين، بأن اعتبروه "غير قانوني". وبادرَ بعضٌ منهم إلى جمع التواقيع اللازمة (26)، لمطالبة البرلمان بملاحقة المتهمين أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الوزراء والنواب، بدلا عن المحقق العدلي. أما وزير الداخلية نفسه صاحب "القتيلَين"، المختصّ برفع الحصانة عن كبار الموطفين الأمنيين المستدعين، فقد حمى أقواهم، أكثرهم تمتّعاً بدعم حزب الله (مرشّحهم المقبل لرئاسة البرلمان). فرفض رفع الحصانة عنه. وكانت يافطاتٌ عملاقة مرفوعة على عواميد ما تبقى من الكهرباء تمجد بآدمية هذا الموظف الأمني، وتعلي من شأن أخلاقه، ومناعته .. إلخ. وكانت تظاهرات الاستنكار لقرار البرلمانيين والوزير المختصّ بعدم رفع الحصانة عن المستَدعين.
ومسرحية البرلمانيين مستمرّة، أن الانتخابات على الأبواب، وأنهم سوف يلعبون ورقة "المجلس الأعلى لمحاكمة الوزراء والنواب"، ويزايدون على الممتَنعين عن المشاركة في حفلة المزايدة هذه. وبعد هذه الانتخابات، يحلّها ألف حلاّل، ومجالات التسويف والابتزاز مفتوحة على مصراعيها. بالضبط كما حصل منذ 39 سنة مع أهالي المخطوفين والمفقودين.
31 سنة من حُكم مجرمين وشياطينهم الخرسان، يمتلكون شتّى أنواع القوة الناعمة والخشنة
31 سنة من حُكم مجرمين وشياطينهم الخرسان، يمتلكون شتّى أنواع القوة الناعمة والخشنة. اعتقدوا أن النسيان الأبدي طمرَ أسماء المخطوفين والمفقودين وكل القتلى الفرادى المبعْثرين. لكن الحُكم نفسه وقع أخيراً في فخ نصبه لنفسه، فكان انفجار المرفأ خير مذكِر، خير مُحيٍ للذاكرة.
لن ينكشف المجرمون والمتورّطون في جريمة المرفأ إذا لم ينكشف أولئك الذين خطفوا ونكّلوا وقتلوا في أثناء الحرب الأهلية. إنها سلسلة وثيقة. يكادون أن يكونوا هم أنفسهم. المجرمون أنفسهم. مع إضافات جديدة، من شراكةٍ وكينونة.