انهزامية في ذكرى نصر
مرّت قبل أيام الذكرى الثامنة والأربعون لحرب أكتوبر (تشرين)، والتي يمكن أن تعدّ النصر الوحيد للعرب على إسرائيل في الحروب التي خاضوها ضد هذا الكيان المحتل. لكنّ اللافت هو اختيار الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، هذه المناسبة لإطلاق تصريحات انهزامية تحضّ الدول العربية على التطبيع مع إسرائيل، والخروج مما سمّاها "الأدبيات المستقرة". ولا يمكن تفسير تعبيرٍ كهذا إلا بأنه يقصد فيه العداء لإسرائيل، فإذا كان ثمّة "أدب مستقر" لدى الشعوب العربية، وليس الأنظمة، فهو فكرة النظر إلى دولة الاحتلال أنها مغتصبة للأرض ومقيّدة لحرية شعب في تقرير مصيره، إضافة إلى القناعة بأن الأطماع الإسرائيلية تتخطّى الأراضي الفلسطينية.
هذه القناعة هي ما يريد الرئيس المصري تغييره، رسمياً وشعبياً، مدّعياً أن الرئيس المصري الأسبق أنور السادات "تجاوز أدبيات ومفاهيم مستقرّة بعد حرب أكتوبر، كان لا بد من تجاوزها بمفاهيم جديدة، من خلال إطلاقه مبادرة السلام التي أثبتت قدرته على قراءة الواقع بعد 40 عاماً وأكثر". لم يشرح لنا السيسي ما هو الواقع الذي أثبت نفسه بعد 40 عاماً، هل هو واقع ترسيخ وجود إسرائيل في المنطقة، والاعتراف بها كياناً شرعياً حتى على حساب أصحاب الأرض الأصليين؟ سياق كلام الرئيس المصري لا يوحي إلا بهذا المعنى.
لم يكتف السيسي بذلك، بل أضاف إليه دعوةً صريحةً وواضحةً للزعماء العرب بأن يحذوا حذو السادات في "تجاوز الأدبيات"، قائلاً "أتمنى من الحكّام المسؤولين عن إدارة الأزمات في منطقتنا أن يستطيعوا تجاوز هذه الأدبيات والمفاهيم، وأن ينطلقوا إلى أعماق أفضل من ذلك". لم يأت السيسي على ذكر المقابل لهذه الخطوة، إذ يبدو أن المهم فقط هو القيام بها من وجهة نظره. لا حاجة لانتظار خطوةٍ مقابلةٍ من الطرف الآخر، بل مجرّد تقديم هديةٍ مجانيةٍ لإسرائيل بالتطبيع معها والاعتراف بها. حتى أن الرئيس المصري لم يشرح المسار الطويل الذي خاضه السادات، ومن خلفه حسني مبارك، لنيْل المقابل على ما يسميها "مبادرة السادات"، وأي سيادةٍ تملكها اليوم مصر على سيناء في ظل القيود التي تفرضها "اتفاقية السلام" الموقعة بين مصر ودولة الاحتلال.
الأغرب في هذه الدعوة أنها تأتي في مرحلةٍ سياسيةٍ دوليةٍ لم تعد تشهد هذا الضغط الرهيب الذي مثّله الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، للتطبيع العربي مع إسرائيل، والذي أنتج "اتفاقية أبراهام" التي جمعت الإمارات والبحرين مع إسرائيل، ثم لاحقاً انضم السودان والمغرب، فالإدارة الأميركية الحالية لا تضع هذا الأمر في سلم أولوياتها، ولا تضغط باتجاه تحقيقه، فالأمر بالنسبة إلى هذه الإدارة لا يتجاوز التصريحات البروتوكولية التي كانت تعتمدها كل الإدارات الأميركية السابقة (باستثناء إدارة ترامب)، والتي كانت مقتنعةً بأن التطبيع الكامل لن يحدث قبل الحل العادل للقضية الفلسطينية. لكن لا يبدو أن هذه هي قناعة السيسي، فالقضية الفلسطينية لم ترد في خطاب "ذكرى النصر"، ولم يربط الدعوة إلى التطبيع مع وضع الفلسطينيين أو مفاوضات السلام، فالأمران بالنسبة إليه غير مرتبطين.
هذا التبرّع السخي من السيسي في دعوته، ربما يحمل في طياته رسائل إلى الإدارة الأميركية في ظل تصاعد الضغط على مصر في ملفات حقوق الإنسان. لكن بغض النظر عن الأهداف، من المهم الإشارة إلى أن ما يسمّيه الرئيس المصري "أدبيات" (غريب جداً هذا التعبير) هي عقائد لا يمكن التفريط فيها، ليس لارتباطها بدينٍ أو حزب، بل لأنها تقع في إطار الحقوق الأساسية للشعوب في الحياة الحرّة والكريمة، والتي لا يبدو السيسي على دراية بها، أو بالأحرى لا يراها ذات أهمية.