انهيار الدبلوماسية الفرنسية
منذ إعلان الجمهورية الخامسة الفرنسية سنة 1958، ومع تعزيز دور رئيس الجمهورية في النصّ الدستوري، ترسّخ في فرنسا عُرفٌ كاد يتحوّل إلى نصٍّ قانوني واضح يتعلق بتبعيّة الملفات المرتبطة بالعلاقات الخارجية لإدارة مباشرة من رئيس الجمهورية وفريقه. ويتم ذلك بتنسيقٍ أحياناً أو دونه غالباً، مع دور وزارة الشؤون الخارجية التي أصبح لاحقًا اسمها وزارة أوروبا والشؤون الخارجية. وبالتالي، اقتصر دور الوزارة على تنفيذ قرارات الرئاسة من دون أخذ زمام أية مبادرة أو الاكتفاء بوضع الدراسات مع بعض الاقتراحات التي غالباً ما يهملها المسؤولون في قصر الإليزيه. ومع مرور الزمن، تشكّل فريق دبلوماسي موازٍ في القصر مؤلفٌ من مجموعة من المستشارين المتخصّصين بالقطاعات الجغرافية كافة. ومع أن الأصول المهنية لغالبية أعضاء هذا الفريق تعود إلى الوزارة ذاتها، إلا أن الشعور العام الذي هيمن لدى موظفي الوزارة هو بالغضب أمام معرفتهم لحجم دورهم الحقيقي الذي لا يتعدّى التمثيل البروتوكولي.
رغم ذلك، استطاعت الدبلوماسية الفرنسية لعقود أن تلعب دوراً مهماً ومؤثّراً في عديد من القضايا الساخنة في العالم. وتبرير هذه القدرة المتناقضة مع الوصف السابق يعود إلى عاملين رئيسيين: الأول، شخصية رئيس الجمهورية واعترافه بضرورة تقسيم الأدوار وتوزيعها، كما بمقدرته على الاعتراف بالتخصّص الهادف إلى تنفيذ تصورات سياسية حملته إلى سدّة الرئاسة لتحقيق مصالح الدولة، بعيداً عن حصر الشأن العام، داخلياً كان أو خارجياً، في حدود شخصه وتصوّراته الذاتية. وبمعنى آخر، كان رئيس الجمهورية "رجل دولة" على الرغم من المماحكات السياسوية التي يخوضها سعياً لانتخابه، إلا أن تصوّره دوره ومهمته عند النجاح، يتجاوز حدود الذاتي. أما العامل الثاني، والمرتبط مباشرة بالأول، فهو شخصية وزير الشؤون الخارجية ومدى تمتّعه باستقلالية التفكير وصوابية التحليل. وبالتأكيد، يختاره رئيس الجمهورية وليس، كما هو منصوص عليه في الدستور، رئيس الوزراء المكلّف. ويسعى الرئيس لأن يكون وزيره للخارجية متلائماً تماماً مع تصوّره السياسي للعلاقات الخارجية ومصالح الدولة الفرنسية وطموحاتها الإقليمية والدولية.
بين فرنسا ميتران وشيراك وفرنسا ساركوزي وماكرون يتضح فقدان "رجل الدولة"
وعرفت فرنسا في العقود الأخيرة وزراء خارجية تركوا بصماتٍ واضحة، ليس في تاريخ فرنسا فحسب، بل أيضاً في سجل تاريخ العلاقات الدولية بشكل عام. وعلى الرغم من التزامهم التنسيق الدائم مع قصر الرئاسة، وعلى الرغم من تطابق معظم تصوّراتهم للملفات الخارجية مع تصورات الفريق الدبلوماسي في القصر، إلا أن شخصية الوزير لعبت دوراً حاسماً في ترشيد عمل الوزارة وموظفيها. ولقد خلّد التاريخ أسماءً منهم بعينها لارتباطها بمفاصل سياسية وأحداث دبلوماسية شكّلت علامة فارقة في المشهد الدبلوماسي الدولي. منهم كلود شيسون الذي اختاره الرئيس فرانسوا ميتران لهذا المنصب بين عامي 1981 و 1984 والذي أدار ببراعة وفعالية تُدرّس ملفّات فرنسا الأوروبية وعلاقات فرنسا العربية وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. كذلك تلاه رولان دوما، بين 1984 و 1986، المحامي البارع، الذي، وإن انحرفت بوصلته مع تقدّمه في العمر، إلا أن إدارته أيضاً الملفّات التي ترجمت مصالح فرنسا من دون أن تنتقص من مصالح الدول الأخرى، وخصوصًا الدول الفقيرة، قد نجحت في تعزيز الوجه الإيجابي للدولة الفرنسية في الساحة الدولية، على الرغم من الإرث الثقيل للماضي الاستعماري. وبمعزلٍ عن حكم اليسار أو اليمين، فلقد أثبتت بعض الخيارات أن رئيس الجمهورية الذي يتمتع بصفات "رجل الدولة" لا يأخذ بالاعتبار انتماء الوزير السياسي بقدر ما يعتمد في خياراته على انتقاء الشخصية القوية والمتبحّرة في خبايا العلاقات الدولية، كما والقادرة على تمثيل وجهة نظر الدولة الفرنسية بثقة وصلابة في مختلف المحافل الدولية.
لقد شهد الكي دورسيه، وهو الاسم المتعارف عليه لوزارة الخارجية نتيجة وجود مقرّها في منطقة باريسية معروفة بهذا الاسم، مرور أسماء مهمة، وهي إن لم تكن قد ساهمت في صنع التاريخ، فقد تركت على الأقل بصماتٍ واضحة لها في مساره. كما هوبير فيدرين الذي انتقل من أمانة سرّ قصر الرئاسة إلى الوزارة بين 1997 و 2002. فيدرين هذا، على الرغم من شدّة واقعيته السياسية، إلا أنه استطاع أن يؤسّس لمدرسة جديدة في العلاقات الدولية. أي إنه كان له تصورٌ ونظرياتٌ، استطاع من خلال منصبه تأكيد فائدتها لمن اختارها، وصارت تُدرّس في المناهج الأساسية للعلوم السياسية. وجاء بعده دومينيك دوفيلبان بين 2002 و 2004، الذي اشتهر بخطابه السياسي والأخلاقي المهم أمام مجلس الأمن ليعبّر عن خيار الدولة الفرنسية برفض اجتياح العراق سنة 2003. دوفيلبان هذا مثّل، في الضمير الجمعي الفرنسي، رجل المبادئ والمواقف، على الرغم من أنه لم يقم إلا بترجمة مصالح بلاده بلغة لامست مشاعر العالم.
بين فرنسا فرانسوا ميتران وجاك شيراك، وفرنسا نيكولا ساركوزي وإيمانويل ماكرون، يتضح فقدان "رجل الدولة". ففي الحكومة الأخيرة، وقع الاختيار على ستيفان سيغورنيه وزيراً للخارجية. وبمعزل عن مفرداته اللغوية الفقيرة وضعفه الملحوظ في توفيق الأجناس والأزمان لغويًا، إلا أنه يتّسم بجهل عضال بالشؤون الخارجية. ولقد أجاب عند سؤاله عن مدى معرفته بشؤون وزارته، قائلاً: سبق لي أن سافرتُ إلى الخارج مراراً.