باتريك لاما .. فلسطين والموسيقى
جاء بديعا من وزارة الثقافة الفلسطينية تسميتها الموسيقار باتريك لاما (1940) شخصية العام 2021 الثقافية الفلسطينية، فهذا الاسم وهّاجٌ في مجرى الفعل الثقافي، الإنساني والجمالي، الفلسطيني، وتكريمُه مستحقّ، سيما وأن البادرة هذه تاليةٌ لتكريم المؤلف الموسيقي، التلحمي، المقدسي المولد، الباريسي الإقامة منذ أكثر من 50 عاما، بوسام الثقافة والعلوم والفنون (مستوى التألق) في 2016. وسيما أيضا وأيضا أن هذا الفنان زاهدٌ عن أضواء الإعلام، ومنقطعٌ لشغله، ليس فقط في التأليفات الموسيقية، وإنما أيضا في إنجاز الأبحاث في الموسيقى والفنون الفلسطينية. غير أننا نجدُنا نسأل عن هذا الاحتفاء بالرجل، ماذا يعني بعد تسميته تلك في اليوم الوطني للثقافة الفلسطينية، 13 مارس/ آذار الماضي، هل من فعلٍ آخر يخصّ منتجَه ومنجزَه، وقد قال وزير الثقافة، عاطف أبو سيف، إن "منجزات لاما الموسيقية كان لها دور كبير في التأكيد على الهوية الوطنية الفلسطينية، وعلى عمق ارتباط هذا الشعب بأرضه، .."؟. ويسوّغ السؤالَ أننا لم نصادف منذ أربعة شهور نشاطا معنيّا بالمُحتفى به. ما قد يعود إلى أوضاع الحال الفلسطيني الصعبة تحت الاحتلال (وغير الاحتلال)، وأيضا شحّ الموارد المالية وتدافع الأولويات، ناهيك عن توطّن الفلكلورية الفلسطينية المعلومة، الاكتفاء بالاحتفاء الإنشائي (على ضرورته بالمناسبة) من دون عملٍ يعزّزه، سيما في الشأن الثقافي.
ولكن، في الوسع ابتكار اجتهادات أخرى، وأظن أن صديقنا الوزير عاطف أبو سيف قادر عليها، من قبيل إقامة احتفاليةٍ كبرى بباتريك لاما، يتم فيها تقديم "أوبرا كنعان"، منجزه الفريد منذ أكثر من 20 عاما (قرأنا إنها أول أوبرا بالعربية الفصحى) في عاصمةٍ عربيةٍ تستضيفها (القاهرة، الدوحة، الكويت، عمّان، الرباط، أمثلة)، بالتعاون المشترك مع الوزارة، ومع رُعاةٍ أو جهاتٍ فلسطينيةٍ وعربيةٍ ميسورة، داعمةٍ للفعل الإبداعي عموما. وفي الوُسع، أيضا، المبادرة إلى ترجمة كتاب باتريك لاما "الموسيقى الشعبية الفلسطينية" (الصادر بالفرنسية العام 1983)، إلى العربية، وإنْ بمقدمةٍ أو إضافةٍ جديدةٍ إليه من المؤلف، ونشرِه للقارئ العربي. وكذا الكتاب الذي ساهم فيه "الثقافة الفلسطينية" (الصادر بالفرنسية في 1981). وجمع مقالاته ودراساته في صحفٍ ودورياتٍ أجنبية، وترجمتها، بإشرافه. وتيسير شرائط وتسجيلاتٍ لأعماله ومقطوعاته الموسيقية (منها أشعار لمحمود درويش والسياب وأدونيس) وتلحيناته الأوركسترالية. .. بمثل مبادراتٍ كهذه (وغيرها)، من المأمول أن تشترك في إنجازها مجهوداتٌ فرديةٌ ومؤسّسيةٌ، لن يبقى تكريم باتريك لاما خبرا عارضا عن تسميتِه شخصية العام الثقافية الفلسطينية يُنشر في وقته، ثم يُنسى. وفي ظن صاحب هذه المقالة إن الحاجة شديدة الوجوب للمدعوّ إليه هنا، بالنظر إلى الإهمال المريع للموسيقى في الانشغالات الثقافية الفلسطينية، سيما من اللون الذي أبدع فيه باتريك لاما، فهو لم يؤلّف تنويعاتٍ على الفلكلوريات الشعبية المغنّاة أو المموسقة، وإنما قدّم معزوفاتٍ ألّفها عربيةٍ وبروح عربية، صدورا عن خبرةٍ موسيقيةٍ غربية. وهو الذي تعلّم في باريس في عشرينياته، ثم طوّر معرفتَه وتجربتَه، مهجوسا، في مغتربه المديد في فرنسا، بالهوية العربية وبفلسطين. وقد تحدّث غير مرةٍ عن التأثير الكبير الذي أحدثته فيه هزيمة 1967، فكانت أولى مؤلفاته الموسيقية بعدها، غير أنه انصرف، بعض السنوات، عن مشاغله الإبداعية إلى الفعل الإعلامي النضالي من أجل فلسطين، مع نخبةٍ ناشطةٍ في فرنسا، وانضوى في حركة فتح. وفي زياراته إلى فلسطين، تاليا، استُضيف في احتفالياتٍ محدودة، وساهم في الدفع بشباب فلسطينيين موهوبين في الموسيقى، وهو الذي تبدّت، في طفولته، موهبتُه برعاية والده الرائد، عازف الموسيقات الكنسيّة والمكرّم من الفاتيكان، أوغسطين لاما.
قال باتريك لاما إن الثقافة الفلسطينية وصلت إلى مستوياتٍ عليا بفعل مبادراتٍ شخصية، فقد اعتمد المثقفون على أنفسهم لإنجاز أعمالهم، الجبّارة كما وصف بعضَها. وقد أصاب في رؤيته هذه. وتجول في خاطره، كما قال، فكرة مشروعٍ جماعيٍّ كبير، يشترك فيه مبدعون فلسطينيون قديرون، يحضُر فيه الشعر والمسرح والتصوير والموسيقى، ينشغل بالقرى الفلسطينية التي دمّرها المحتلون .. من يتلقّف الفكرة؟ من يكرّم باتريك لاما جدّيا؟