باريس والرباط وما بينهما الزلزال
لم يُصلح الزلزال ما أفسدته السياسة بين فرنسا والمغرب، وضاعت مناسبةٌ مهمة من أجل اللقاء في منتصف الطريق، أو فتح ثغرةٍ في جدار الجفاء الذي يقف بين بلدين تربط بينهما علاقات متميزة. وما بدا للوهلة الأولى أنه فرصة أتاحها الحدث المأساوي، سرعان ما تبخّرت. ومن طرف باريس، كانت لهجة العتب على الرباط عاليةً في وسائل الإعلام، رغم أن الأوساط الرسمية استوعبت الموقف المغربي، من عدم الاستجابة لعرض المساعدة الفرنسي، وصدرت تصريحات توضيحية هادئة، عن وزيرة الخارجية كاترين كولونا، للحيلولة دون تفاعل المسألة، في وقتٍ غير مناسب، لا يزال فيه المغرب في المرحلة الأولى من معالجة آثار الكارثة، وهو بذلك يحتاج إلى كل أشكال الدعم والمساندة والتضامن من الأصدقاء، غير أن وسائل إعلام فرنسية لم تأخذ بالموقف الرسمي، وراحت تتحدّث عن رفض المغرب اليد الفرنسية التي امتدّت نحوه في هذا الظرف، وتحدّثت، بصورة خاصة، عن امتناع الملك محمد السادس الردّ على مكالمةٍ هاتفيةٍ من الرئيس إيمانويل ماكرون، كان يريد فيها أن يعبّر له عن مواساة الدولة والشعب في فرنسا مع المغرب وشعبه، وقال بعض معلقي وسائل الإعلام إن ماكرون حاول من هذه الالتفاتة تجاوز الوضع السيئ للعلاقات، ليفتح صفحة جديدة مع المغرب، ويستغلّ المناسبة كي يمهّد من أجل القيام بخطواتٍ سياسية لاحقة، ولكن الملك قابله بالصدّ، وردّ عليه عن طريق رسالة هاتفية مكتوبة.
يحمل حديث وسائل الإعلام الفرنسية بعض المبالغات، وما صدر عن وزيرة الخارجية الفرنسية ليس سوى التبرير الدبلوماسي لردّ فعل باريس التي لم تتوقّع ألا تكون أول بلد يتوجّه نحوه المغرب، بطلب المساعدة. صحيحٌ أن المغرب لم يرفض العرض الفرنسي بالمساعدة، لكنه لم يُعطه الأولوية كما حصل مع عروض كل من بريطانيا، قطر، إسبانيا، والإمارات. وهذا أمر لا يمكن نزعه من سياق الأزمة التي تمرّ بها علاقات البلدين التي لا يبدو أنها سوف تعود إلى سابق عهدها بمجرّد إجراء مصالحة، وحتى في حال جرى تجاوز الوضع الراهن، لا تبدو الرباط عازمة على فتح صفحة جديدة مع فرنسا، إلا على أسس وشروط مختلفة. ومهما يكن من أمر، لا يمكن مقارنة العلاقة بين فرنسا والمغرب بأي علاقةٍ مع دولة أخرى مهما كانت متينة، كما هو الحال مع أميركا على سبيل المثال، وهي على قدر كبيرٍ من التشابك عبر تاريخ طويل يعود إلى عدّة قرون، وذات أبعاد سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، وتتجاوز علاقات فرنسا الأخرى مع بلدان المغرب العربي. ويبدو أن هذا أحد أبواب العتب الفرنسي العريضة، ومصدر حرج شعبي للحكومة الفرنسية تجاه الشعب الفرنسي الذي يحتفظ بصورة إيجابية للمغرب، لم تتأثر بموجة العنصرية التي تنامت في العقدين الأخيرين.
كانت بعض الأوساط الدولية تعتقد أن المغرب سوف يغرق في وحل الزلزال، ويرفع الصوت عاليا يطلب النجدة من القاصي والداني، ولكن مواجهة الرباط المأساة أظهرت أن هذا البلد وصل إلى وضعٍ يمكنه من الاعتماد على نفسه، ولديه من الموارد المادية والبشرية واللوجستية ما يكفي لمواجهة المأساة. ومع ذلك، لم ترفض السلطات المغربية أي عرضٍ بالمساعدة، بل هي تعمل وفق خطة مدروسة قائمة على جدولة الأولويات، ومن المؤكّد ستأتي اللحظة التي على فرنسا أن تترجم فيها خطابات الدعم والمساندة، وينطبق هذا على الدول الأخرى، مثل الولايات المتحدة. ونظرا إلى الدمار الكبير الذي خلّفه الزلزال في العمران والبنى التحتية، فإن دور المساعدات الدولية الفعلية سيأتي في مرحلة لاحقة، أما عمليات الإغاثة التي أعقبت الزلزال، فإن المغرب تمكّن من القيام بها، رغم مصاعب الجغرافيا.