بايدن السيئ خياراً "ثورياً"
من بين ما ساهم في وصول دونالد ترامب إلى رئاسة أميركا عام 2016 فرضية خرقاء، تسعى إلى أن تصبح نظرية، ولو بتكلفة بشرية هائلة. تفيد الفرضية الثورية بأن تغيير أوضاع سياسية اقتصادية اجتماعية لا تُحتمل همجيتها، يلزمه الدفع بهذه الأوضاع إلى حدودها القصوى لكي تنفجر على بكرة أبيها، فيصبح بعدها ممكناً إعادة بناء نظام على أسس جديدة تقطع مع السابق جذرياً. والثرثرة الشعبوية تلك تغرف من إرث ماركسي، ربما يكون محرَّفاً، يقتبس عن صاحب اللحية الكثة استعارة فيزيائية يُقال إنه كان يردّدها في مجالسه، تفيد بأنه كلما دُهست الطبقة العاملة أكثر، وكلما زاد منسوب استغلالها، جاءت قفزتها لاحقاً أعلى. إذاً، تتمة العملية التي ربما لم ينطق بها الفيلسوف الألماني أنه يجدر إفساح المجال أمام حكم الأقلية لكي يبلغ ذروته في الوحشية والاستغلال والتطرّف، بدل فعل كل ما هو ممكن للحد من مساوئه، وذلك دائماً لكي تنفجر السلطة من داخلها أكبر انفجار ممكن من دون الإكتراث بعدد ضحايا هذين، الانتظار والتغوّل. ولأن إسقاط معادلات الرياضيات والفيزياء على العلاقات البشرية من دون الالتفات إلى مليون معيار اجتماعي ونفسي واقتصادي، هو وصفة للخراب، فقد جاءت نتيجة المراهنة الخرقاء مسلسلاً من الكوارث في الحالة الأميركية الترامبية، تماماً مثلما كانت حصيلتها في كل مرة عوّل فيها اليسار الأناركي والراديكالي على عدم تنظيم صفوفه، وعلى تفادي إبرام التحالفات والمساومات، وعلى العفوية في سلوكه، وعلى نظرية "دع الإمبراطورية تنهار على يد قائدها"، من خلال رفض دعم الحلول الأقل سوءاً مقارنة مع اليمين المتطرّف، على غرار ما حصل عند مقاطعة هيلاري كلينتون قبل أربع سنوات. ويمكن اختزال تلك الفرضية بكلمات ثلاث: معاداة الحلول الإصلاحية، على اعتبار أنها ترقيعية مؤقتة تزيل الصدأ عن مفاصل النظام، من دون التنبه إلى أن من شأن تلك الحلول الترقيعية المحتقرة تخفيف الضرر عن الملايين، في الداخل الأميركي وفي الخارج.
حُمل دونالد ترامب في تلك السنة الانتخابية المشؤومة على أكتافٍ كثيرةٍ إلى البيت الأبيض. أشد خصومه تصدّروا الاحتفالية. ناخبو بيرني ساندرز مثلاً، فضّلوا وصوله على حساب هيلاري كلينتون، رمز المؤسسة الأميركية البغيضة برأيهم، وهي كذلك بالفعل، من دون أن يحتسبوا الكلفة الباهظة التي ستترتب عن خيارهم السلبي ذاك. استغرق الأمر أربع سنوات لكي تحصل المراجعة الجذرية في صفوف تلك الفئة الوازنة من المجتمع الأميركي، ولكي يستنهض ساندرز طاقته التي تقاوم سنواته الـ79، وليجيّش ناخبيه السابقين وإقناعهم بالتصويت لمصلحة الوجه الآخر من ميدالية هيلاري كلينتون، أي جو بايدن. أربع سنوات كان يمكن تفادي مصائبها على الداخل الأميركي وعلى العالم لو بذل من قاطعوا انتخابات 2016، نكاية بكلينتون، وتعلقاً بالفرضية الخرقاء إياها، جهداً بسيطاً للخروج من شرنقتهم الأيديولوجية، وليفهموا أن اختيار السيئ على حساب الأسوأ يمسي واجباً أخلاقياً إنسانياً مصلحياً، لا بل ثورياً، في لحظات مفصلية من التاريخ.
قبل أقل من شهرين على حلول موعد استحقاق الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، لا بد أن خصوم ترامب ممن قاطعوا التصويت قبل أربع سنوات يلاحظون كيف أن النظام الأميركي لم ينفجر بفعل تغوّل ترامب بسياساته العدوانية في الداخل والخارج، لا بل زاد بأسه وربما تكون اتسعت قاعدته الاجتماعية. لعلهم باتوا يدركون أن الإصلاح، وإن كان بطيئاً وتدريجياً، إذا كان يخفف منسوباً عالياً من الظلم الاجتماعي، حتى ولو لم يمسّ بأسس النظام المطلوب تغييره، يبقى أفضل بأشواط من الاستسلام لسلبية قاتلة في انتظار انهيار السلطة من داخلها بثورة على غرار الانفجار السوفييتي قبل ثلاثة عقود.
جو بايدن ليس خياراً مثالياً. هو يميني محافظ اقتصادياً في الداخل. لا تُعرف عنه خيارات إنسانية في السياسة الخارجية. دعمه إسرائيل معروف. هو ابن المدرسة الواقعية في التعاطي مع الأنظمة القمعية، متحمّس لإبرام الصفقات معها. ذلك كله صحيح، لكنه في النهاية ليس دونالد ترامب، وهذا أمر كافٍ.