بايدن والشرق الأوسط .. عالم جديد
استهلّ لستر ثارو الفصل الأول من كتابه "الصراع على القمة: مستقلب المنافسة الاقتصادية بين أميركا واليابان" (ترجمة أحمد فؤاد بلبع، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر/ كانون الأول 1995) باقتباس من الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغان، عن الدب الروسي، معنوناً (ثارو) الفصل بـ"اختفاء الدب"، ترميزاً لنهاية الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة والانقسام العالمي بين معسكرين شرقي وغربي.
جاءت مقاربة ثارو في ذروة الانتعاشة الأميركية والغربية بالانتصار على العالم الشيوعي. وحينذاك ظهرت أطروحتان، هيمنتا على السجال الفكري العربي؛ الأولى كتاب نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، والثانية صدام الحضارات لصموئيل هنتنغتون، في حين كان ثارو يشير إلى انتهاء عهد الحروب العسكرية، وبروز الحروب العالمية الاقتصادية، وهو وإن كان قد أشار إلى التنافس الأميركي الياباني (حينها، كان كتاب "اليابان التي تستطيع أن تقول لا" لإيشيهارا شنتارو، وزير النقل 1989 أحد الكتب المهمة التي أثارت سجالات كبيرة)، فإنّه لم يهمل القوى الأخرى الصاعدة، مثل ألمانيا الغربية والاتحاد الأوروبي عموماً، لتظهر لاحقاً الهند، والصين التي أصبحت الصداع الأكبر اقتصادياً للولايات المتحدة، وبدأت تحتل الأولوية الرئيسية في استراتيجيات الأمن القومي الأميركية أخيرا، وفي سيناريوهات مراكز التفكير والبحث هناك في واشنطن.
قبل أيام قليلة، كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يؤجّج النقاش بشأن مستقبل النظام الدولي في ضوء الحرب الروسية – الأوكرانية، أخيرا، بالتأكيد على أنّ نظام القطب الواحد لم يعد صالحاً ومؤشّراً على جملة من المتغيرات التي تعزّز كلامه منها القوى الاقتصادية الصينية والهندية، وحتى الإندونسية والأميركية الجنوبية، ويرسل تحذيراً مبطّناً إلى الأوروبيين، أنّ الحرب الراهنة ستضعهم اقتصادياً بصورة كبيرة.
دخل الأميركيون مع حقبة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في ارتباك في تحديد الأولويات والقضايا الاستراتيجية والتعامل معها
وبمناسبة الحديث عن ثارو وفوكوياما وهنتنغتون وإيشيهارا، فإنّ أحد أبرز الكتّاب الجدليين اليوم في روسيا وخارجها، وتحظى كتبه باهتمام كبير، هو ألكسندر دوغين، الفيلسوف الروسي المعروف (بخاصة كتابه أسس الجيوبولتيكا)؛ إذ يرى محللون ومتابعون كثيرون للشأن الروسي أنّه بمثابة المنظّر الجديد للقومية الروسية، ولتدشين بدائل "الأوراسية" في مواجهة حالة التراجع أو الاختفاء الروسي عن المسرح الدولي منذ نهاية الحرب الباردة وحتى عقد، حتى بدأ الروس يرجعون إلى التنافس الدولي، ولعلّ نصيب الشرق الأوسط كان واضحاً فيما حدث في سورية وفي الدخول الروسي على ملفات عديدة في المنطقة.
على الطرف المقابل، دخل الأميركيون مع حقبة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في ارتباك في تحديد الأولويات والقضايا الاستراتيجية والتعامل معها، وتزامن ذلك، عربياً، مع بدايات الربيع العربي 2011، إذ بدا الرئيس مؤيدأ أو مسايرا لما حدث في مصر وتونس، وداعماً للثورة السورية، إلى أن بدأ بالتراجع مع حادثة مقتل السفير الأميركي في طرابلس، ثم التراجع عن توجيه ضربة على سورية، بالرغم من تهديداته المتواصلة، والوصول، في المقابل، إلى صفقة تاريخية مع الإيرانيين، ما أثار قلق الحلفاء العرب وسخطهم، ودفع بهم إلى البحث عن بدائل وخيارات أخرى استراتيجية، تسبّب بأزمة شديدة بين الطرفين، انعكست على الحضور العربي الهزيل لقمة كامب ديفيد التي دعا إليها أوباما حينها زعماء دول الخليج، بالرغم من محاولة الرئيس طمأنة حلفائه، قبل مغادرته البيت الأبيض بعام على الالتزام بالعلاقة الاستراتيجية.
عودة الديمقراطيين أرعبت الحلفاء العرب من العودة إلى مدرسة أوباما والتحالف مع إيران وعدم الاكتراث بالعلاقات التاريخية بين الطرفين
ما حاول أوباما تخبئته، فضحته المقالة التي نشرها في مجلة ذا أتلانتيك الصحافي المشهور جيفري غولد بيرغ Jeffry Goldberg في العام 2016، إذ قدّم فيها رؤيته لمنطقة الشرق الأوسط ولمستقبل السياسة الأميركية فيها، وهي، بالمناسبة، رؤية تشاؤمية، ترى أنّ هذه منطقة غارقة في مشكلاتها الداخلية، وأنّ النظام الذي أقيم فيها بعد الحرب العالمية الأولى قيد التفكك، وأنّه تجنب التورّط فيها، وأحسب أن تلك المقالة، بما تضمنته من رؤية أوباما وفلسفته، وثيقة تاريخية على درجة كبيرة من الأهمية لفهم الرؤية الأميركية والتحولات في السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة.
ذهب أوباما، وجاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأعاد الجميع إلى المربع الأول، ما قبل الربيع العربي، أو ما يمكن تسميتها "الصفقة التاريخية بين المصالح الأميركية والسلطوية العربية"، لكنّه أضاف إلى ذلك مساراً آخر في الفترة الأخيرة له يتمثل بالإعلان عن صفقة القرن، والتمهيد للاتفاقيات الإبراهيمية، بمباركة وهندسة وتخطيط من صهره جاريد كوشنير، وجرى ترسيم خطوط التحالف الأميركي- العربي- الإسرائيلي، في مواجهة إيران، مع سفور أكثر من الرئيس الأميركي تجاه الضغط على الدول العربية في توقيع المعاهدات، ودفع المليارات للحفاظ على العلاقة والدعم الأميركي.
إلاّ أنّ عودة الديمقراطيين أفسدت تلك اللحظة التاريخية، وأرعبت الحلفاء العرب من العودة إلى مدرسة أوباما والتحالف مع إيران وعدم الاكتراث بالعلاقات التاريخية بين الطرفين وغيرها، وهي أمور بدت واضحة تماماً مع بدايات عهد الرئيس الجديد جوزيف بايدين (كان نائب الرئيس أوباما ويشاطره أفكاره، بخاصة التي ظهرت في مقالة جيفري غولد بيرغ)؛ وجاءت الإدارة الجديدة بعد مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، واتسمت علاقة بايدن بكل من السعودية والإمارات بالبرود، ثم انتهى عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لتتعزّز الشكوك العربية تجاه مستقبل العلاقة مع الإدارة الأميركية.
زيارة بايدن المنطقة معقدة وصعبة، وتعكس صعوبة تعامل أميركا مع التحوّلات الإقليمية
في الأثناء، كان الانسحاب الأميركي من أفغانستان وما نجم عنه من ضرر للصورة الأميركية عالمياً، ثم الحرب الروسية - الأوكرانية التي ترافقت مع تجذّر الشكوك بين الأميركيين والعرب، بخاصة مع رفض السعودية زيادة الإنتاج النفطي، وتصويت الإمارات المحايد في الأمم المتحدة مرّتين، ما انعكس على الأسئلة حول العلاقة بين الإدارة الأميركية والمنطقة.
صحيحٌ أن الرئيس بايدن لم يمض وراء خطى ترامب، لكنّ الواضح أنّه لا يملك تصوّراً استراتيجياً واضحاً تجاه المنطقة، بخاصة مع الحرب الروسية – الأوكرانية، وما ينجم عنها من أزمات اقتصادية وعالمية. وعلى الأغلب، إنّ تأجيل زيارته المنطقة مرتبط بمراقبة حالة الحكومة الإسرائيلية ومصيرها من جهة والعمل على ترتيب الاجتماع والمخرجات المرتبطة به مع الدول العربية، من خلال القمّة المنتظرة لبايدن مع هذه الدول.
تحالف أميركا مع دول عربية نفطية في حالة اختبار اليوم، والاتفاق مع إيران يواجِه تطورات، والأتراك يفاوضون ويقايضون موقفهم مع أميركا وأوروبا، بينما هنالك سيناريوهات متفاوتة تجاه الحكومة الإسرائيلية، في الوقت نفسه، مسيرة السلام معطّلة تماماً، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، يريد مكتسبات من زيارة بايدن. وهكذا، فهي زيارة معقدة وصعبة، وتعكس صعوبة تعامل أميركا مع التحوّلات الإقليمية.