بايدن يدخل المتاهة الإيرانية
بعد نحو شهر من أدائه القسم رئيساً، خلفاً طيباً لأسوأ الرؤساء الأميركيين، وفي سياق طويلٍ من الإيماءات والغمزات والرسائل الموجّهة، حصراً، إلى أسماع القيادة الإيرانية، الخبيرة بفكّ شيفرة مثل هذه البرقيات، خطا الرئيس جو بايدن الخطوة الأولى، من غير تعوّذ، إلى تخوم المتاهة الإيرانية، ولامس حافّتها بقدمه اليسرى، مفعماً بكثيرٍ من حسن النية، وبقليلٍ من فضيلة الريبة، فبدا العم جو كمن دلف إلى سديم ثقب أسود، أو قل انخرط في لعبة روليت، كل أرقامها خاسرة، قد يفقد فيها كامل حججه وأوراقه القوية. إذ برفع واشنطن بعض القيود الرمزية المفروضة على إيران، بما ينطوي عليه ذلك من تودّد واسترضاء وملاينة، تكون الدولة العظمى الوحيدة هي التي حملقت بعينيها الواسعتين برهة قصيرة، ثم رمشت أولاً بلا مكابرة. وبهذا الاستهلال الزلق لمسار تفاوضي مرتقب، تحضر المفارقات الفارقة دفعةً واحدة، حيث تبدو أميركا كأنها التي تكابد الأمرّين تحت وطأة العقوبات، تستعجل رفع الحصار، ووقف انهيار الاقتصاد وانسحاق قيمة الدولار، فيما تبدو إيران، في المقابل، كأنها صاحبة اليد العليا، تشترط وتملي، لا يرفّ لها جفن، ولا تخشى ملامة.
لسنا في موضع تقديم النصح، فأهل واشنطن أدرى بشعابها الفسيحة، فما بالك وأن لها أوتوسترادات عريضة ومضيئة، غير أن على المرء المعني بشؤون هذه المنطقة وشجونها، العارف بقسطٍ من ثقافاتها، أن يدلي بدلوه، أن يقول، بقدر من التحفظ، إن نهاية هذه اللعبة الماجنة معروفة قبل أن تبدأ، فقد شاهدنا هذا الفيلم بالأمس، فكلما كانت تعرب واشنطن عن ميلٍ إلى التسامح، وتخطو إلى الأمام بتؤدة، كانت إيران ترى في ذلك مظهر ضعفٍ بالغ، ينبغي معه التشدد أكثر، ورفع سقف الشروط أعلى، على أساس أن أميركا كائن مطاطي قابل للضغط، أو دولة على وشك الركوع جاثيةً على ركبتيها.
لا أدلّ على ذلك من التصعيد الذي قابلت به طهران بادرة رفع جماعة الحوثي من قائمة الإرهاب، أو الهجمات التي ردّت بها المليشيات على قواعد أميركية في العراق، بعد أن استنتج الحرس الثوري، على ما يبدو، أن إدارة بايدن بلا عين تقدح شرراً كسابقتها، وليس لديها خطوط حمراء. وبالتالي يمكن التهويل عليها بإشعال الحرائق وإغلاق المضائق، وعصرها كنصف حبة برتقال إلى آخر نقطة. ولعل استجابة إدارة بايدن الباهتة لتحدّيها في أربيل خير شاهد، حيث لم تجد لديها ما تتغطّى به على تلك الإهانة، سوى ترداد القول المضحك المبكي، الدارج لدى النظام السوري منذ أربعين سنة "سنردّ على العدوان في الزمان والمكان المناسبين".
في غمرة السجال الناشب بين الأميركيين والإيرانيين، منذ ما قبل وصول بايدن إلى البيت الأبيض، كانت التساؤلات: من الذي يحاصر من بحقّ السماء؟ من يهدّد من بالويل والثبور، من يخشى عظائم الأمور؟ من الذي يتألم أكثر، ويتحسّب للعاقبة إن وقعت الواقعة، جرّاء سوء تقدير، أو بفعل ارتكاب حماقة؟ هل هي إيران المخترقة حتى النخاع، العاجزة عن حماية أرشيفها النووي وكبير علمائها، أو حتى الرد على الاستهدافات المتواصلة لتموضعاتها في سورية؟ أم هي أميركا التي قتلت قاسم سليماني جهاراً، وهو الشخصية الثانية بعد المرشد الأعلى، من دون أن يطاولها انتقام، أو يُجرح لها جندي؟
مثل هذه التساؤلات التي كانت بالأمس مشفوعةً بالدهشة والاستهجان، تعاود اليوم طرح نفسها بإلحاحٍ أشد، واستغراب يجلّ عن الوصف، خصوصا ونحن نشاهد هذا الاسترضاء الأميركي غير المفهوم لطهران، حتى لا نقول التهافت العجيب، ونرى، بالصوت والصورة، سلة مليئة بالجزر الناضج الشهي، فيما العصا الفولاذية مركونة خلف الباب الخارجي، الأمر الذي يشجّع طهران، بالضرورة الموضوعية، على نفخ الأوداج أكثر من قبل، وربما يحملها على الاعتقاد أن المسبحة قد كرّت لتوها، وها أولى الحبّات تسقط في عبّها، والبقية آتية.
من السذاجة البناء على افتراض أن حكومة الرئيس روحاني تُمسك بالقرار الاستراتيجي الإيراني، أو أن المرشد الأعلى، على أهميته، هو المرجع الأخير للسلطات كافة، فيما الحقيقة أن هناك سلطة تعلو فوق كل السلطات المعلومة، ونعني بها سلطة إيران المتخيلة وصولجان سلطانها المعمم، أي رؤية الجمهورية الإسلامية نفسها صاحبة مشروع إمبراطوري، أو قل قائدة "الإمبريالية الإسلامية المجاهدة"، الدولة الإقليمية أسيرة صورتها، المتمركزة في نواة فقه عقيدتها، المسكونة بثاراتها التاريخية وبمظلوميتها المذهبية، المنافحة عن دور رسولي خلاصي. وعليه، مع مثل إيران هذه سيتفاوض المفاوضون.