بدوي في الكونغرس
تحتاج خطبة نتنياهو في الكونغرس، الأربعاء الماضي، أن تصيرَ من موضوعات الدرْس الأكاديمي والتحليلي للدعاية الإسرائيلية و"فنونها" وبُناها وثوابتها ومتغيّراتها. وإذا كان الكذب من أدوات هذه الدعاية وخطابها، فإنّ ممّا يلزمُه أن "يتزيّن" بشيءٍ من "الصدق" و"الحقائق". ومن مواقع شحيحةٍ، لامس فيها صاحبُ الخطبة المذكورة، بعضَ ما هو حقيقيّ، إشارته إلى واحدٍ من أربعة جنودٍ في جيش دولة الاحتلال اصطحبهم معه إلى مهرجان التدليس في الكابيتول الأميركي، أنه بدويٌّ مسلم، قاتلَ في صدّ الهجوم المشهود في 7 أكتوبر. وبعيداً عن الدجل الذي أفضى به الخطيبُ الكاذبُ عن "البطولة" التي أبداها هذا الجندي في تلك الموقعة، صحيحٌ كل الصحّة أن هذا الجندي مسلمٌ وبدوي، ولم يكن ممكناً أن يوصَف أمام "بهاليل" الكونغرس (بتعبير صديقنا أسامة أبو ارشيد) بأنه فلسطيني. ولعلّ "الضربة" الدعائية الأهم، في سياق الحديث عن هذا الجندي واسمُه أشرف البحيري، أن نتنياهو تكلّم أن ثمّة جنوداً إسرائيليين آخرين مسلمين مثل هذا الشخص، إلى جانب "رفاقهم اليهود والدروز والمسيحيين"، وهولاء هم "جنود إسرائيل من كل عرقٍ ودينٍ وتوجّه سياسي". وكلامٌ من هذا اللون يُضاعف من إعجاب سامعيه المشرّعين الأميركيين بدولة إسرائيل، شريكة الولايات المتحدة في نشر التحضّر في مواجهة البربرية، كما زعم مجرم الحرب، فأطرب بتبجّحه هذا أولئك، فضاعفوا التصفيق له وقوفاً وجلوساً.
يأخُذُنا مشهد جنديٍّ بدويٍّ مسلمٍ (فلسطيني قبل هاتين الصفتين وبعدهما)، محتفىً به في مهرجان دعائي في الكونغرس، إلى واقع أقلية فلسطينية، لا يجد شبابُها غضاضةً في التطوّع في جيش هذه الدولة التي ينتسبون إلى جنسيّتها. وفي أرشيف هذه الموضوعة، بدأ دخول من يشاء من هؤلاء، اختيارياً وتطوّعاً (ليس إلزامياً كما الدروز)، في الجيش في 1987، ضمن كتيبةٍ تحت إمرة قيادة منطقة غزّة، وهم حاليا نحو 1500، بينهم نحو 80 ضابطاً، ويشاركون في أعمالٍ قتالية، بالإضافة إلى مراقبة الحدود مع مصر. وتأتي تقارير موثوقة على تراجعٍ في وتيرة انتساب البدو في الجيش، لعنصريةٍٍ في التعامل معهم، من ظواهرها أن دولة الاحتلال لا تعترف إلا بـ19 قرية بدوية، فيما لا تحظى بهذا 35 قرية، فيجرى هدم البيوت فيها، وترحيل سكّانها، وحرمانهم من الخدمات الأساسية. وعلى ما تفيدنا إحصائياتٌ مُعلنة، فإن الفلسطينيين البدو (التسمية التي يجدُر تعميمها) 350 ألفاً في صحراء النقب (منهم الجندي المُستَضاف في قاعة الكونغرس)، و80 ألفاً في الشمال. وقد قضى 24 منهم في عملية 7 أكتوبر، بينهم أربعة جنود. وجرى احتجاز عدد آخر أسرى لدى المقاومة.
ليس أشرف البحيري وحدَه الفلسطيني البدوي جرى اصطحابه إلى أميركا، لاستثماره دعائياً، فقد حدَث أن رافق شخصٌ من عائلة بدويةٍ وفداً إسرائيلياً إلى مجلس الأمن، اثنان من عائلته ما زالا محتجزيْن في غزّة، بعد الإفراج عن آخريْن في هدنة التبادل في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وكان حسناً من مندوب فلسطين في الأمم المتحدة، رياض منصور، تقريع هذا الشخص في مجادلةٍ بينهما هناك. ولشدّ ما كان مُخزياً أن هذا نفسَه استضاف الوزير في مجلس الحرب (قبل استقالته)، بني غانتس، على مأدبة إفطار في رمضان الماضي، برفقة عضوٍ في الكنيست وأفيخاي أدرعي. ولئن تتعدّد مظاهر "الأسرلة" لدى هذه الفئة من الشعب الفلسطيني في الداخل، فإن القول الأصحّ في فهمها أن إغراءات الراتب الجيّد ومزايا معيشية، وكذا إحراز اعتراف اجتماعي في ظروف تهميشٍ وفقرٍ واضحة، وراء تطوّع شباب من بدو فلسطين في جيش الاحتلال، وليس الولاء لدولة إسرائيل على ما أوحى بهذا نتنياهو في فعلته الدعائية تلك. وكان في محلّه الوصف الذي خلعه عضو الكنيست السابق، طلب الصانع، وهو من نخبة بدو فلسطين، على هذا التطوّع في الجيش، أنه "ظاهرة مأساة فردية، ولا تمثّل أبناء البدو الذين يُعتبرون امتداداً للشعب الفلسطيني في آماله وآلامه". وأوضح الباحث محمود محارب أن نسبة هذا التطوّع متدنيّة "رغم سعي المؤسّسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية إلى مضاعفة ذلك عبر وعودها بتقديم امتيازاتٍ لهم".
لم يسمّ نتنياهو أشرف البحيري فلسطينياً، بل كان وفيّاً للنهج الصهيوني العتيد الذي يعمد إلى تجزئة الفلسطينيين إلى مجموعاتٍ عرقيةٍ ودينية وطائفية... ولنا أن نسمّي هذا الجندي الشاب من ضحايا فلسطين في واحدٍ من وجوه تعقيدات قضيّتها العويصة.