براءة "أوسلو" وورطته الثمينة
السوء الفادح في إعلان المبادئ، الموقّع بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل (اتفاق أوسلو)، ظاهر ولا تخطئه الأعين. ولذلك لا يضيفون على الدفّ لحناً من يستنزفون وقتهم في لعنه، سيما في مواسم ذكرى توقيعه السنوية، وهي السابعة والعشرون أمس. وكان الظن أن الأوْلى من جهدٍ نافلٍ كهذا تداعي الكل إلى صياغة خرائط طريق عملية، تحاول ما أمكنها أن تنقذ الحال الفلسطيني، سياسياً واقتصادياً، من البؤس المريع الذي يمكث فيه، وتبتكر وسائل كفاحيةً ونضاليةً في مقاومة الاحتلال، في وسع الرائي فيها أن يتبصّر سبيلاً إلى إنهائه. ومن العجائب الطافحة بأوجه غرابةٍ زائدةٍ أن أولئك، عندما يفعلون هذا، يقولون، باستسهال وخفّة غزيريْن، إن "أوسلو" هو المسؤول عن هذا الحال، فيما أولى الحقائق المنظورة أن عدم تحقّق ما نصّ عليه الاتفاق الملعون (والفادح السوء كما ذكّر الاستهلال أعلاه)، بالإجهاز عليه، وسدّ المنافذ التي اشتمل عليها في طريق العبور إلى إنجاز حقوق فلسطينية، منقوصة، هو من أسباب البؤس الفلسطيني الراهن، ما يعني أن "أوسلو" بريء من هذا الإتهام. وهنا، يصير طيباً لو يتواضع الناقمون هؤلاء، ويتذكّروا أن من تطوّع بمهمة إسقاط الاتفاق السيئ الذكر هي دبابات شارون وسياسات اليمين الإسرائيلي، مسنودتيْن بذيلية أمثال شيمون بيريز، وليس الذين أجهدوا أنفسهم في اجتماعاتٍ وإشهار بياناتٍ ضد الاتفاق، و"مخرجاته" على ما كان بعضهم يسترسلون.
ليس الغرض من الكلام أعلاه المسّ بالنيات الصادقة لدى أصحابنا هؤلاء، ولا بمشروعية معارضتهم اتفاقاً لم يبذل الفلسطينيون دماءً زكية من أجله، وإنما التنويه إلى وجوب أن لا تتوقف قدراتنا النقدية بشأن أحوالنا، راهنها وماضيها، عند توسّل شحنات الغضب. ومنعطفٌ ثقيل الحضور في التجربة الفلسطينية المديدة، بوزن اتفاق أوسلو، لا يجوز الإطلال عليه، بعد 27 عاماً على إشهاره، بلغة من يهتف في مسيرة احتجاجٍ ضدّه، في اليوم التالي لتوقيعه، سواء في مخيم شعفاط أو جادّةٍ في باريس، وإنما باستعادة الحقيقة الأهم، أنه بمقدار ما عارضت الإتفاق جموعٌ فلسطينيةٌ وازنة، محقّة، فإن كتلةً راجحةً في دولة الاحتلال ناهضته، وتكفّلت بقتله، وبتدمير علائم الكيانية الفلسطينية المتولّدة منه، ومن ذلك أن شارون كان يعرف ما يفعل، لمّا افتتح واحدةً من حروبه على الشعب الفلسطيني بتدمير مطار لهذا الشعب في غزة. وحقيقةٌ أخرى أن آلافاً من معارضي "أوسلو"، في فصائل العمل الوطني وغيرها، يسّر لهم هذا الإتفاق عودةً من نوعٍ ما إلى فلسطين، والإنخراط في نشاط كفاحي فيها، ولو من خلال مؤسساتٍ تتبع السلطة الوطنية. وكما استهدف التوحش الإسرائيلي أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أبو علي مصطفى، "العائد" إلى فلسطين، في مكتبه في رام الله، اعتقل رئيس المجلس التشريعي، المنتخب، عزيز الدويك، القيادي في حركة حماس التي وجدت أن ثمّة من "مخرجات" اتفاق أوسلو ما يمكّنها من حضور مؤسساتي، ويختبر قدراتها في إدارة شؤون شعبها في الضفة والقطاع (نجاحها أو فشلها موضوع آخر). والمعنى هنا أن ثمّة أوجهاً أخرى لمقاربة الاتفاق المُتبارى في ذمّه بما ليس فيه (!).
ومن أعاجيبَ نشطَ اللتّ والعجن فيها، أخيراً، أنه ليس من حق الفلسطينيين لوم حكام الإمارات والبحرين في تطبيعهم المبتذل مع إسرائيل، فهم وقّعوا اتفاق أوسلو، وعاهدوا الإسرائيليين في غير شأن. ولأيّ منا أن يتجنّد في التأشير إلى خطايا وسوءاتٍ في التفاوض الفلسطيني، ولكن من دون أن يمرقَ عليه تخريفٌ كهذا، فاتفاق أوسلو بريء من هذا، لأنه ليس معاهدة سلام. وفي عموم تفاهماتها مع حكومات إسرائيل، لم توقع منظمة التحرير على اتفاقٍ ينهي الصراع (يوجّه محمود عباس سنوياً في ذكرى النكبة خطاباً للشعب الفلسطيني). والمرجوّ هنا أن يُستعاد إلحاح بيل كلينتون وإيهود باراك على عرفات لتوقيع اتفاقٍ كهذا في "كامب ديفيد"، ولم يفلحا. كما أن استنكاف المحتل الإسرائيلي عن الوفاء باستحقاقات اتفاقاته، مع المضي في الاستيطان ونهب الأراضي والتهويد في القدس، تجعل الأدعى أن يمتنع أي نظام عربي، مهما بلغت حمائميته (وغيرها؟) عن إقامة أي لونٍ من العلاقات مع إسرائيل التي لم يتنازل الذين وقعوا على "أوسلو" عن انسحابها إلى حدود 4 يونيو 1967، على ما يحسن تذكير الذين يستطيبون الكلام عن ورطة أوسلو، فيما هي ورطةٌ ثمينةٌ، أضاع الفلسطينيون ممكناتٍ وفيرةً فيها، وهذا موضوع آخر وشرحه طويل.