بروفة لبنانية للفراغ الرئاسي
بعد مرور نحو شهر على تكليف نجيب ميقاتي، بتشكيل الحكومة في لبنان، وأكثر من ثلاثة أسابيع على تسليم ميقاتي مسودة الحكومة الجديدة لرئيس الجمهورية، ميشال عون، ما زال ملف تشكيل الحكومة عالقاً في عنق الزجاجة على فالق الخلافات وتباين المقاربات ما بين عون، الذي لا يبدو أنه في عجلة من أمره للإفراج عن الحكومة الجديدة، بعدما حشره الرئيس المكلف بتشكيلة وزارية لا يمكن أن يقبل بها، والرئيس المكلّف نجيب ميقاتي، الذي لا يبدو أنه في وارد تقديم أي تنازلات للرئيس عون ولصهره جبران باسيل بعدما ضمن بقاءه في موقع السلطة، تمّ تشكيل الحكومة الجديدة أم لا.
لو نظرنا إلى الأزمة القائمة على المستوى السياسي من زاوية استشرافية للمستقبل لفترة ما بين شهر ونصف الشهر إلى ثلاثة أشهر ونصف، والتي تفصل ما بين بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية في 1 سبتمبر/ أيلول، وانتهائها في 31 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، يمكن القول إنّ كلاً من عون وميقاتي يتصرّفان وفقاً لرؤى ومصالح متناقضة، إذ تأتي تحرّكات كلّ طرف في الأزمة الحالية ضمن الرؤية الاستشرافية لكلّ طرفٍ إلى الروزنامة السياسية الداخلية، فخلاف عون، ومن خلفه صهره جبران باسيل، مع ميقاتي، على شكل الحكومة والحقائب والأسماء، يبقى أبعد من صراع الرجلين على آلية الحكم، فما يدور حالياً من خلاف بين الطرفين يمكن إدراجه ضمن "صراع الإرادات" القائم على معادلة "أكون أو لا أكون" والذي تلعب فيه العوامل الشخصية والمواقف المسبقة إلى جانب طبيعة النظام السياسي اللبناني دوراً حاسماً وكبيراً في هذا الخلاف الذي أدخل ملف تشكيل الحكومة العتيدة في "دوّيخة"، يبدو أنّه رحّلها في أحسن تقدير إلى ما بعد انتهاء الاستحقاق الرئاسي.
التعقيدات كثيرة ومتعدّدة، وتتخطّى أحياناً المعطى الداخلي إلى البعد الخارجي
من جهة، يصرّ الرئيس ميقاتي على الخطوط العريضة التي وضعها لحكومته الجديدة، والتي يتقدّمها أن تكون الحكومة من الاختصاصيين، ويرفض إسناد وزارة الطاقة إلى التيار الوطني الحر، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كذلك يرفض زيادة عدد الوزراء وتطعيم تشكيلة حكومته بمجموعة من السياسيين، خصوصاً، وأنّ هناك تخوّفا كبيرا من تعذّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً لميشال عون، الأمر الذي يعني تصدّي مجلس الوزراء وحده لملء الفراغ، وربّما يشكّل هذا الأمر الهاجس الأول والهم الأكبر للرئيس عون ولصهره جبران باسيل، ويدفعهما إلى تعطيل التأليف، حفاظاً على دورهم في حكومة تصريف الأعمال من خلال الوزراء المحسوبين عليهم لضمان المشاركة الفاعلة في الحكم وكبح سلطات الرئيس نجيب ميقاتي عند الضرورة من خلال هؤلاء الوزراء.
من هنا، يرى مراقبون عديدون أنّ كل المعطيات والمؤشّرات تشير إلى صعوبة كبيرة للتوافق بين الرجلين على أكثر من خلفية، فالتعقيدات كثيرة ومتعدّدة، وتتخطّى أحياناً المعطى الداخلي إلى البعد الخارجي، على اعتبار أنّ استحقاق رئاسة الجمهورية دخل بقوة، وطغى على كل الاستحقاقات الأخرى، ومن ضمنها الشأن الحكومي وتأليف حكومة جديدة، فلكل ما يجري اليوم صلة وثيقة بالاستحقاق الرئاسي، من خلال حساباتٍ دقيقةٍ لمعظم الأطراف الرئيسية، فتمسّك ميشال عون، ومن خلفه صهره جبران باسيل على سبيل المثال، بشروطهما للإفراج عن تشكيل الحكومة يتعلق بشكلٍ أساسي برغبة عون وطموح باسيل بمنصب الرئاسة، ومن أجل ذلك يقاتلان للحصول على حظوظ أكبر في الحكومة القادمة، المتوقع أن تتولى كل الصلاحيات في حالة شغور منصب الرئيس. وإلا سيمثل الفراغ الحكومي الأمر الواقع الذي سيحاول ميشال عون فرضه في لبنان من خلال التبجّح بالميثاقية أحياناً، وبالدستورية أحياناً أخرى، تحت عناوين الشراكة الكاملة لرئيس الجمهورية بتشكيل الحكومة ووحدة المعايير، وذلك في سبيل إنقاذ المستقبل السياسي لصهره باسيل. وبالتالي، فإنّ تعطيل ولادة الحكومة الجديدة، يخدم بشكل أو بآخر، أجندات الرئيس عون والتيار الوطني الحر. لذا من المستبعد أن يوافق عون على تشكيل حكومة لا تتناسب ورؤيته، طالما أنّها هي التي ستتولّى مهام الرئاسة في حال تعثّرت الانتخابات الرئاسية.
إزاء هذه الأولويات والأهداف المتباينة والمتناقضة للفرقاء اللبنانيين، وعدم استعدادهم لتقديم تنازلات بعضهم لبعض، والتعاطي اللامسؤول مع الشعب اللبناني الذي يرزح تحت وطأة مجموعة أزماتٍ غير مسبوقة، تبقى مهمّة تشكيل الحكومة العتيدة معقدة للغاية، وتدخلها في حالة من الجمود الطويل المرجح أن يمتد فترة قد تطول إلى نهاية ولاية الرئيس اللبناني ميشال عون، ليكون بذلك الفراغ الحكومي الحالي مجرّد بروفة للفراغ الرئاسي المقبل، والذي سيقود لبنان إلى مكان لا تحمد عقباه.