بشّار الأسد الذي "أنقذ" بلاده
وفق مفهوم "الالتباس السياسي"، الذي يتّجه نحو الواقعية الفجّة وفنّ قنص الفوائد، يصحّ القول إنّ الذهنية البراغماتية لنظام الأسد تبنّت الطابع الوظيفي للأزمات، ليتحوّل المستبطَن في الخطاب المُعلن، والحبك الخبيث في توظيف المأساة، إلى متنٍ قوي يتحكّم في ما يَصعُب مخالفته أو تغييره. ولا يتعلق المستبطَن "السام" بالهامش الآخر، المقموع والمختلِف، بل بالتصدّعات السردية في رواية المنتصِر التي تعمّمها باعتبارها وقائعَ وحقائقَ مطلقة.
كذلك الأمر، فإنّ الحفاظ على العرش الأسدي تطلّب من سيّده، على الدوام، إظهار مستوى غير مسبوق من المراوغة والدهاء، في حين يُجمع كثيرون على أنّ بشار الأسد ليس كوالده المُحنّك بما يَكفي لمنْع الحرب من الوقوع أو إشعالها متى أراد ذلك، والذي كان حليفاً استراتيجياً للإيرانيين، فلا ضير من دعمهم في حربهم ضد صدّام حسين، ولكنه في المقابل كان يقصقص أجنحتهم في لبنان، على يقينٍ ضمني بأنّه إذا فتح لهم الباب فإنهم لن يتوقفوا عند العتبة. في السياق، يبدو الأسد الابن "ذكياً" على نحوٍ خادع، إذ نادراً ما يُعثر على بحثٍ يتناول هذه الشخصية المُريبة من دون شعاراتية أو شحنة عاطفية زائدة تُوقع المتلقي في فخّ التناقض، ما يُبعد العقل عن التأمّل في ديكتاتورٍ "فريدٍ من نوعه"، عندما وجد نفسَه وسط ملابساتٍ لا أول لها ولا آخر جَهِدَ في صناعة الأزمات المستعصية التي تُمكّنه من أن يقاسي، ظاهرياً، الحدّ الأدنى من العقوبات لتحصيل أقصى الفوائد المجزية. هو الذي تبنّى المقولة الشهيرة: "الطغاة يجلبون الغزاة"، ثم اجتهد في تطويرها من مَثَلٍ متداول غير مُتَّفقٍ عليه إلى حقيقةٍ مُسلَّمٍ بها ومفادها: "الطغاة/ الضعفاء يصنعون الحلفاء/ الأعداء"، كأنّه يتطلع إلى نوعٍ جديدٍ من الاستعمار "الناعم" مدفوع القيمة، مشكور الهمَّة.
هذا حساب الحقل، وهو في حالة دائمة من الاستثناء، أما حساب البيدر، فتنازلات الأسد بطبيعتها المُلتَبَسة، والتي تتعامل مع الوقائع بطريقةٍ نفعية عملاتية، تكشف النقاب عن نموذج تثبيت حكم العائلة رؤيةً ذرائعيةً تعتمد في قيمتها على قدرة التحقّق، لتظلّ الأزمات السياسية معلّقة وقابلة للانعكاس المفيد، كونها لا تخرُج عن التصوّرات العامة لاسترتيجية دعم الدكتاتورية الأسدية، وأوهام صناعة الاستقرار. من هذا المنطلق النفعي المقتصر على المصالح الآنية والأنانية معاً، وخلافاً للأسد الأب الذي تميّز بقدرته الخارقة على المناورة والمساومة، إذ لم يترك قضيةً إلا وفاوض عليها، حتى لو كان الطرفُ إسرائيلياً، لكنه في النهاية مات ولم يُوقّع. ربما لأنه لم يُردْ ذلك. على خلافه، وجد الابن نفسه، ومنذ البداية، مضطراً إلى صنع سياسته الخارجية الخاصة بعيداً عن إرث والده، وكلّ ما احتاج إليه، خلال العقد الفائت الملتهب، إعلان تغييرات تجميلية "شوّهت" نظامه، في حين كان المشهد السياسي يزداد سوداوديةً وتأزّماً، فمحاباته الإيرانيين، مثلاً، كانت تزعج الأميركيين، وكان هذا ما يُريده، كان يتوقّع مقابلاً، رغم معرفته أنّ إيران ستتمكّن من البلاد، لأنّها تنظر إلى الملفّ السوري جزءاً من رؤيةٍ سياسية أيديولوجيةٍ طويلة الأمد، لذا ترى التطبيع العربي مع بشّار الأسد بمثابة انتصار شخصي لها، لكن، هل يملك الأخيرُ متسعاً من الوقت لالتقاط أنفاسه، ولعابه، والتفكير في السيناريوهات المطروحة حول الاستهداف الإسرائيلي لمبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، بينما أقصى ما يقوم به، وكعادته، هو الصمت الذي يسبق عاصفة القِطاف، والمشحون بلغةٍ استنكارية "رقيقة" للهجمات الإسرائيلية على مُنقذِه وحليفهِ الاستراتيجي؟
وجد الابن بشّار الأسد نفسه، ومنذ البداية، مضطراً إلى صنع سياسته الخارجية الخاصة بعيداً عن إرث والده
وفي حين أكّد الرئيس الإيراني أنّ الهجوم الإسرائيلي "لن يمر من دون ردّ"، بالتوازي مع إصدار إسرائيل تعليماتٍ لسفاراتها بضرورة تعزيز إجراءاتها الأمنية، حتى إنّ المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، غير بيدرسون، دان الاستهداف بشدة، رغم أنّه لم يدن جرائم الأسد في حقّ السوريين منذ توليه المنصب، ولأنّ قيمة أيّ كارثة تكمن في ما تقدّمه من منفعةٍ وما تُشبع من حاجة ملحّة، اكتفت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) باستعراضٍ دعائي ممجوجٍ للتصريح العاطفي المجّاني لوزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، ومن مقرّ السفارة الإيرانية: "كيان الاحتلال الإسرائيلي لن يكون في مقدوره التأثير على العلاقات بين إيران وسورية" (!).
وعليه، السؤال المُلحّ الواجب طرحه هنا: هل يمكن لسياسة "قمّة تلو قمّة" المستندة إلى مبدأ "خطوة مقابل خطوة" أن تنجح مع الأسد، رغم الجولات المكّوكية صفرية المحصول، التي لم تنجز أيّ اتفاق أو توافق على بند دستوري واحد يسمح بفتح ثغرةٍ في جدار الأزمة السورية المصمتة؟ خاصّة أنّه يمكن، وببساطة شديدة، التقاط الذبذبات الصريحة لموجة براغمات الأزمات التي تفضح فكر الأسد ومعتقده، بعد تجدّد أمله بغنائم مرتقبة إثر تسلّمه دعوة رسمية من ملك البحرين للمشاركة في القمّة العربية المزمع عقدها في مايو / أيار المقبل في المنامة.
حين تكون العواصف السياسية التي تلوك سورية في حالة تَغيّر يكون العرش الأسدي غير آمن البتّة
على أي حال، تُؤكّد مخبوءات الذهنية الأسدية ودلالاتها الرمزية على مفهوم القابلية للتطبيق للسياسات الملتبسة والأزمات المعلّقة باعتبارها معايير جدارة. ولعلّ الجواب على السؤال المذكور آنفاً يتّضح بالتوازي مع مأساة غزّة التي شكّلت هدية غير متوقعة للأسد الذي قدّم دمشق طرفاً مفيداً: "لا مظاهرات ضد العدوان الإسرائيلي... ولا إدانة صريحة"، في انتظار "المكافأة على الحياد" بغضّ النظر عن سجلّه الوحشي. ولا شك أنّ صمته المطبق يُجسّد براءة ذمّة حيال الحرب الدائرة، باعتباره مرتكزاً ثابتاً لا يمكن تغييره، ليثبت للعالم أنّه صمام أمان المنطقة الملتهبة، وأنّ نظامه قادرٌ على أن يكون طرفاً مُحرّكاً لمستنقع الصراع العربي الإسرائيلي، ولو عن طريق الانبطاح والطأطأة، بل يمكن المغالاة في التحليل وتأكيد أنّ الأسد استخلص من "طوفان الأقصى" ورقةَ حسن سلوك هو أكثر احتياجاً إليها في قمّة المنامة، التي لا تحمل أيّ مباغتة صادمة خارجة عن العادة، ويُفترض أنّها ستكون أقلّ سخونةً بكثير من سابقتها القمّة العربية في جدّة. والورقة في جوهرها مُنجَزٌ عملاني مهمٌّ يحمله جزار دمشق بين يديه من شأنه أن يزيده ثقة واسترخاء، بعد تبنّيه مسار الدفع باتجاه تطويق الحرب بالتزامه الصمت تجاه الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة وعدم السماح لمليشيات إيران باستهداف إسرائيل انطلاقاً من سورية، وهذا ما حصل بالفعل.
نافل القول، حين تكون العواصف السياسية التي تلوك سورية في حالة تَغيّر يكون العرش الأسدي غير آمن البتّة، لذا تعتبر الذاتيّة المتطرفة والأنانية الصارخة إحدى سمات بشار الأسد المميّزة، هو الذي يعتبر المأساة السورية ليست أكثر من رؤيةٍ إشكالية ليس لها علاقة بالواقع، فالحقائق التي لا تجعل من النفعية والجدوائية معياراً لتبرير تنازلاته المُهينة التي وصلت إلى حدّ بيع البلاد، لا يمكن اعتبارها من المسلّمات الثابتة حتى لو خضعت للتجربة والقياس. بهذا المعنى تتحول القمم العربية، واحدةً تلو أخرى، إلى صندوق مليء بالعروض والبنود، والسكاكر ربما، ينتقي منها الأسد على نحو تجريبيّ بحت ما هو أكثر نفعاً له في هذا الموقف أو ذاك. إذ كيف يمكن أن تعوّل على حاكم سايكوباتي يُنكر بشدة أن يكون قد سبّب إزهاق حياة السوريين وتدمير البلاد. جاء ذلك في حوارٍ سابق مع صحيفة البايس الإسبانية لدى سؤاله عن الكيفية التي ينظر بها إلى نفسه بعد عشر سنوات. فأجاب بثقة مطلقة: "عندها سأكون أنا الشخص الذي أنقذ بلاده".