بلغراد إذ تُفسد نهاية عام بوتين
كانت أيام فلاديمير بوتين عامرة بالأعياد في النصف الثاني من هذا العام. الأخبار الآتية من أوكرانيا عيد بحد ذاتها. قوّاته تتقدّم هناك، حيث يتسلّل الشك والتعب إلى نفوس الشعب الذي احتلّ الحالم بتقمّص شخصية الإمبراطور بطرس الأكبر، 20% من مساحة بلده حتى الآن، وقد اعتاد العالم على فظاعة كهذه، مثلما يعتاد سريعاً على كل الفظاعات. ونتيجة الاعتياد والملل والتعب والأزمة المالية العالمية، تنسحب أوساط أجنبية مركزية شيئاً فشيئاً من برامج دعم كييف بالأسلحة والأموال، بدءاً من جماعة دونالد ترامب في مجلسي نواب وشيوخ أميركا وقبلهم حكام بلدان أوروبية مثل سلوفاكيا. أخبار فلسطين عيد آخر للرئيس الروسي الممتن لقيادة حركة حماس لتنفيذها عملية 7 أكتوبر، ولآلة القتل الإسرائيلية على استعراض كل هذا الإجرام الذي أخرج الحدث الأوكراني من المشهد أولاً، واستدرج هذا العطب الأخلاقي لمسؤولين غربيين كثر ثانياً، وثالثاً وربما الأهم، جعل من الخطاب المؤيد حقّ الشعوب في تقرير مصيرها ونظامها السياسي، ومقاومة الاحتلال والظلم، مجرّد وجهة نظر تخضع لحسابات تتعلق بجغرافيا البلدان المعنية ودين الشعوب المقصودة وثقافاتها ومصدر ثرواتها وهوية البلد المعتدي. هكذا، تلقّت نرجسية فلاديمير بوتين، المتضخّمة أصلاً، جرعة إضافية يترجمها مزيداً من القمع داخل بلده، وعدوانية متمادية ضد أي اعتراضٍ محتملٍ حيث يمتدّ نفوذ موسكو خارج الحدود الروسية. خصومه من حكّام الغرب شعروا كم سيكونون سخيفين وكاذبين لو ظلّوا يخاطبون بوتين بأدبيات ما قبل المجزرة الإسرائيلية بحقّ غزّة وتأييدهم لها بكل نذالة، فصار جو بايدن وأولاف شولتز وإيمانويل ماكرون وريشي سوناك وغيرهم يتفادون تبرير إصرارهم على انتصار أوكرانيا بحقها في تقرير مصيرها وتحديد خياراتها السياسية وعلاقاتها الخارجية، وبحقّ الأوكرانيين في مقاومة الاحتلال والظلم، لكي لا يسألهم الرجل عن الفارق بين جرائمه وجرائم إسرائيل، وباتوا يكتفون بجعل القصّة مواجهة شخصية مع فلاديمير بوتين بوصفه تهديداً لأوروبا الغربية أكثر منه مغتصباً لسيادة بلدان صغيرة وشعوب يستكثر عليها الرئيس أن تبقى مستقلة في قراراتها وخياراتها واتجاهاتها السياسية والاقتصادية والثقافية وربما الدينية.
العدوانية البوتينية حققت قفزات معتبرة في المجاهرة والتفاخر بما كان يحتاج سابقاً من حكام الكرملين تقديم مبررات وأكاذيب. أصبح خبر منع تسجيل ترشيح معارِضة للحرب على أوكرانيا، اسمها يكاتيرينا دونتسوفا لكي تنافس فلاديمير بوتين في انتخابات مارس/ آذار المقبل، يمرّ من دون صدور تعليق رسمي يبرّر أو يوضح أو يقدّم ذرائع. رحلة البحث عن مكان وجود المعارض المسجون إلى الأبد، أليكسي نافالني، انتهت من دون صدور توضيح من الكرملين، بل بالكشف أن الرجل مرميٌّ في سجن بمنطقة قطبية روسية في الشمال اسمها خارب هي عبارة عن سجن كبير، تضم الكثير من السجون ونزلاء يزيد عددهم عن عدد سكّان القرية الـ5000.
لكن، كلما ظنّ حاكم موسكو والإمبراطورية المتضخمة بأنه ختم التاريخ بإطفاء أي احتمال للمشاغبة والتمرد في نفوس خصومه، خرج علينا أبطال إضافيون مقرهم اليوم في صربيا التي لا تنام عاصمتها بلغراد على وقع رفض معارضي الرئيس القومي الشعبوي ألكسندر فوتشيتش الفائز بموجب انتخابات 17 ديسمبر/كانون الأول، وربما بقوة فلاديمير بوتين، نتائج ما يسمونها انتخابات المهزلة. من شأن تطوّر غضب هؤلاء أن يمسح كل أفراح عام 2023 بالنسبة لبوتين، لذا كان لا بد سريعاً من استلال ببغاواته سيف المؤامرة لكي يقارنوا بين أحداث بلغراد 2023 وكييف 2014.
يبقى أن فلاديمير بوتين ذكي، والذكاء ليس قيمة بذاتها، فالقاتل المتسلسل غالباً ما يكون عبقرياً. بوتين عارف جيد بأحوال التاريخ أيضاً، لكن ربما تكون نقطة ضعفه أنه أسوأ من يبني مستقبلاً. يتحسر على أن انهيار الاتحاد السوفييتي كان أكبر كارثة جيوسياسية، ولا ينام ليلة قبل أن يزرع مزيداً من بذور الانهيار.