بناية تنهار على "رؤوس" أبناء المدينة
دأب كاتب هذه السطور على التوجّه إلى منطقة اللويبدة وسط العاصمة الأردنية عمّان للقاء أصدقاء هناك، وقد اختار، قبل بضعة أعوام، موقعا دائما لركن السيارة في شارع داخلي هادئ، يبعد أقل من مائة متر عن موقع رابطة الكتاب الأردنيين، غير أن الرابطة انتقلت إلى موقع بعيد، فيما حافظ الزائر على إيقاف سيارته في الموقع إياه، وحيث يضمن عادة وجود مكان للركن، وبعيدا بعض الشيء عن معاينة رقباء السير المتأهبين دوماً لتسجيل مخالفات. يتميز الموقع بهدوئه وانزوائه، ويوفر فرصة للمشي على القدمين باتجاه دوّار باريس، القلب النابض للمنطقة، وقد أطلق عليه هذا الاسم تكريماً للملحقية الثقافية الفرنسية التي قامت بتأهيل الدوّار، وكان يسمّى من قبل "دوّار الحاووز"، لوجود خزان ماء كبير في وسطه، وقد تم نقله إلى مكان آخر، ويقع المعهد الثقافي الفرنسي قبالة الدوّار، ويتاخم المبنى الصغير للبنك العربي، والدوّار بمنزلة حديقة عامة دائرية صغيرة تتسع مقاعدها الثابتة لأقل من خمسين شخصاً.
ولفرط هدوء موقع ركن السيارة، فإنه يبدو موحشاً، وعلى درجة من الإعتام في ساعات الليل، ويثير مشاعر توجّس طبيعية، رغم أن الزائر المنتظم لم يشهد فيه على مدى سنوات أي حادثٍ مُقلق، فلما تناهى إلى مسامع الزائر أن بناية قديمة في ذلك الشارع تجاور بناية حديثة دائمة الإضاءة قد انهارت في وضح النهار (الرابعة من عصر الثلاثاء 13 سبتمبر/ أيلول)، فقد شعر بأن توجّسه المعهود كان في محله، إذ انطوى الهدوء المخيّم كما يبدو على محذورٍ مؤجّل وقد وقع أخيرا. يا للهول. بناية تسقط من دون سابق إنذار على رؤوس قاطنيها (باستثناء شقوق أصابت جدران بعض الشقق في اليوم السابق على الكارثة، على ما روى أحد سكان البناية الناجين)، وتتحوّل بشققها الثماني خلال دقائق إلى ركام وأنقاض تدفن القاطنين تحت طبقاتها الثقيلة. وقد ظلّ الشارع الفرعي المجاور يحتفظ بهدوئه التام في تلك اللحظات، بل إن أحداً لم يكن يعبر الشارع في لحظات الهول تلك، كما مجدّدا في رواية لناجٍ انهمك في غسل سيارته أمام البناية المنكوبة لحظة الانهيار.
توصف منطقة جبل اللويبدة التي ضمّت البناية المنكوبة بأنها عريقة، فذلك حتى لا يقال إنها قديمة
حدثت من قبل انهياراتٌ جزئيةُ في المدينة طاولت مبانيَ قديمة مأهولة، كما انهارت بنايات كاملة، لكن هذه كانت قيد الإنشاء وغير مأهولة بطبيعة الحال. ولعلها بذلك المرة الأولى التي تنهار فيها بناية كاملة ومأهولة، ما أصاب ساكنة العاصمة بالذهول والصدمة الشديدة، وهم قد دأبوا على رؤية مشاهد لانهيار مفاجئ لبنايات سكنية في بلدان أخرى زمن السلم، منها مصر، فضلا عن بناياتٍ لا تُحصى انهارت في أوقات الحرب في غزّة وسورية ولبنان واليمن، ما أضعف الشعور بالأمان المنزلي، وبخاصة مع تصريحاتٍ ذهب بعضها إلى أن البناية "قديمة متهالكة"، ومضى على إنشائها خمسون عاما، ففي الأحياء الشعبية والمناطق الفقيرة هناك مئات من المباني السكنية التي تنطبق عليها هذه الأوصاف، وبالذات تلك المقامة على السفوح والمنحدرات في مدينة الجبال السبعة. وواقع الحال أن البناء وتوفير الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وخطوط هاتف وصرف صحي في مناطق شرق عمّان ووسطها يكاد يرقى إلى مصاف "المعجزة الهندسية". هذا إذا أخذنا في الاعتبار أن حركة بناء المساكن بالحجر والإسمنت في تلك المناطق بدأت منذ نحو ثمانية عقود، وحيث لم تكن تتوفر آنذاك أجهزة ومعدّات متطوّرة للبناء ولإقامة البنى التحتية الخاصة بالمباني، فضلا عن شُح الموارد العامة والأهلية، غير أن التقادم يفعل مفعوله ومعه سيول الأمطار سنة تلو سنة، وعوامل التعرية الأخرى. وقد بادرت نقابة المهندسين الأردنيين (نحو 170 ألف عضو) إلى التذكير بأنها سعت، مع هيئات رسمية وأهلية منذ العام الماضي، في الدعوة إلى حصر ما سمتها "البؤر الساخنة"، وخاطبت في ذلك أمانة عمّان (البلدية)، إضافة إلى جهات أخرى، من أجل القيام بمسح للمباني المهددة بالمخاطر، غير أن خطوات شاملة لم تُتخذ في هذا الاتجاه، علما أن الأحياء والمناطق التي تضم هذه البؤر معروفة، وهي المسمّاة مناطق شعبية وقديمة، وخصوصا التي تقع على السفوح والمنحدرات، وبعضها بُني بغير ترخيص هندسي كما يقال.
هذه الكارثة، إذ سبّبت صدمة واسعة هي الأولى من نوعها، فإنها، في الوقت ذاته، كشفت عن واقع الجهاز البيروقراطي الضخم الذي لا يواكب التحدّيات أمام تطوّر مدينة عمّان وتضخّمها، وضرورة مراجعة أوضاع ما هو قديم فيها، جنباً إلى جنب مع انطلاق مشروعاتٍ جديدةٍ توصف بعضها بأنها مشروعات لمدينة ذكية.. إذ ليس من الحصافة في شيء أن يتوافر في المدينة أكثر من مليون مركبة، مع عجز مُزمن ومهول في عدد وسائل النقل العام.
الجهاز البيروقراطي الضخم لا يواكب التحدّيات أمام تطوّر عمّان وتضخّمها، وضرورة مراجعة أوضاع القديم فيها
وإذ توصف منطقة جبل اللويبدة التي ضمّت البناية المنكوبة بأنها عريقة، فذلك حتى لا يقال إنها قديمة، إذ تضم منذ خمسينات القرن الماضي مباني سكنية مشادة بالحجر، وتعدّ، على بساطة طرازها، تحفة معمارية. وقد عُرفت هذه المنطقة على الدوام بطابعها المتمدن وباختلاط الأعراق والجهات والأديان فيها. ومنذ نحو عقدين، باتت تجتذب سكّانا أجانب غربيين وآسيويين. كما عرفت بأنها موقع لنقابة الفنانين (قطاع التلفزيون والمسرح) ورابطة التشكيليين ورابطة الكتاب أزيد من أربعة عقود، ووزارة الثقافة (أو دائرة الثقافة والفنون على الأصح) ثلاثة عقود، فضلا عن بعض المسارح وغاليريهات الفن التشكيلي ومتحف الفنون. ومنذ العام 2010، شهدت فورة في افتتاح المقاهي والمطاعم، إنما على رقعة ضيقة نسبيا من المنطقة. ومع ذلك، الحدائق العامة فيها شحيحة، ولا تصل إليها وسائل المواصلات العامة باستثناء التاكسي الأصفر. ولا توصَف بأنها منطقة أغنياء ولا فقراء، بل منطقة وسطى طبقياً، ما جذب الجمهور إليها. إلا أن ثمّة، على أطراف المنطقة ومنحدراتها، أحياء تضم مساكن شعبية، منها الحي الذي ضمّ البناية المنكوبة.
قد يبدو انهيار بناية سكنية أمراً معهوداً أو عابراً لدى أبناء المدن العربية التي ابتليت بالحروب والصراعات، والاستئساد على المدنيين والمرافق المدنية، غير أنه يكفي أن يستذكر أؤلئك حال بلدانهم ومدنهم التي نعمت بالسلام، قبل وقوع الكوارث فيها، كي يدركوا مدى فداحة انهيار بناية على حين غرّة، وتحت ضوء الشمس الساطعة، على رؤوس ساكنيها الآمنين. وحتى كتابة هذه الكلمات، فقد بلغ عدد الضحايا عشر وفيات.. أولئك الذين لطالما عبرتُ بالسيارة على مقربة من بنايتهم في شارع ضيق، تحفّ به السيارات المتوقفة، ويستوجب من السائق التركيز الفائق وتصويب النظر إلى الأمام. ويشاء القدر أن أحييهم فقط بعد رحيلهم الفاجع عن دنيانا، فلترقُد أرواحهم الطاهرة بسلام.