بوتين في أوكرانيا: ظلال ستالينغراد
"ما يحصل في شرق أوكرانيا يشبه الإبادة"، هكذا وصف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مساء أول من أمس الخميس، ما يجري بين الانفصاليين في حوض دونباس والحكومة الشرعية. سوّغ الرئيس الروسي بعبارة واحدة نواياه بما قد يُقدم عليه في أي لحظةٍ مفصلية، تنتظرها أصلاً أوكرانيا والغرب منذ اجتياحه شبه جزيرة القرم في عام 2014 وضمّها إلى السيادة الروسية.
في العادة، لا يمكن جرّ بوتين إلى معركةٍ لا يكون واثقاً فيها، من وجهة نظره. الرجل يدرك تماماً تاريخ بلاده العسكري، المتناقض بين الانتصارات الساحقة والهزائم الكارثية. لم يسجّل لروسيا حرباً كرّست فيها خطوط تماسّ محدّدة، منذ "حرب الشتاء" مع فنلندا في عامي 1939 ـ 1940، وصولاً إلى القرم في 2014. ومع أنه قادرٌ على عدم إطلاق النار على قدميه، إلا أن الرئيس الروسي قد يُقدم على فعلٍ ما في أوكرانيا، مغاير لعنصر المفاجأة التي اعتمدها في جورجيا عام 2008، وفي القرم. لا يعود السبب إلى اختلاف قواعد اللعبة في العالم، ودخول عناصر جديدة في السنوات السبع الأخيرة غير مدعوّة إلى ساحات النزاع، مثل العملات الرقمية وفيروس كورونا، بل ينحصر الأمر في حدس بوتين الذي يدفعه إلى قياس خطواته، استناداً إلى ما قاله بنفسه في عام 2015: "تعلّمت في شوارع لينينغراد (سانت بطرسبرغ حالياً) أنه حين يكون القتال حتمياً، عليك توجيه الضربة الأولى".
كل ما حصل منذ الربيع الماضي، من حشود عسكرية روسية في منطقة روستوف، على الحدود مع أوكرانيا، ثم تجدّد عملية الانتشار في الأشهر الأخيرة، يوحي بأمرين. الأول، اعتبار بوتين نفسه في موقعٍ يدفعه إلى توجيه الضربة الأولى، انطلاقاً من خطر ما يتهدّده. ويمكن هنا إدراج كلامه عن "الإبادة" في الشرق الأوكراني، في هذا السياق. حينها، يصبح اجتياح أوكرانيا مسألة وقت ليس إلا. الثاني، يمكن أيضاً ربط الحشود الروسية بالصراع مع الأميركيين حصراً على أوروبا. ذلك لأن الرئيس الروسي لا يقيم وزناً للدول الأوروبية، بل يتعامل وفقاً له، مع أقوياء مماثلين له، مثل الأميركيين والصينيين. لن يتردّد في تكرار تفاهم جوزيف ستالين - أدولف هتلر، حين تقاسمت ألمانيا النازية مع الاتحاد السوفييتي الشيوعي دولة بولندا. بوتين مستعدٌّ لفعل أمر مماثل مع الرئيس الأميركي جو بايدن، وإن اختلفت العقائد والضرورات. صحيحٌ أن "نموذج غروزني" سيتكرّر في أي حالة عسكرية، إلا أنها ستؤمن لبوتين تفاهماً على أنقاض أمةٍ أوكرانية مدمّرة مع الأميركيين. يعلم الرئيس الروسي أن نهاية تفاهم ستالين ـ هتلر في ستالينغراد تبقى درساً له، حيال حدوث شيءٍ مماثلٍ مع الأميركيين.
المسألة الأهم لا تقف هنا، فبوتين الذي غالباً ما يتصرّف كرجل عصابات يدرك ما يفعله، ويفهم أن أي انزلاقٍ إلى حربٍ طويلة، سيطيح سنوات الصعود التي تلت مرحلة بوريس يلتسين، وستفسح المجال في نشوء فراغاتٍ، تستغلها تركيا في العالم التركي الجديد، والصين في الوسط الآسيوي، في مقابل ثبات أميركي. هنا، يبدو بوتين في مأزق نسبي: يريد حرباً ساحقة وخاطفة، لا يدمر فيها خطوطاً حمراء مع الأميركيين، وتضمن له عصباً قومياً يتيح له التجديد الرئاسي في عام 2024، ولا يريد حرب استنزافٍ تجعل من أفغانستان مقابل الاتحاد السوفييتي مجرّد "لعبة أطفال" في أوكرانيا. ووسط هذا كله، لا يمكنه البقاء مكتوف الأيدي حيال أي تمدّد محتمل للأطلسي على أطرافه الغربية.
وحتى يحين وقت حسم أمره، يؤكّد الإعلام الغربي قرب اجتياح أوكرانيا، مع تأكيد بايدن أنه لن يدفع بالجيش الأميركي إليها. وجّه بوتين ضربات أولى سابقاً، وانتصر فيها، لكن غزو أوكرانيا قد يشكل آخر "ضربة أولى" له، بعد نحو 32 عاماً على مغادرته ألمانيا الشرقية إثر سقوط جدار برلين.