بوتين ورجال الشرطة الخمسة في الأمم المتحدة
هل سيكون مصير روسيا شبيها بمصير الاتحاد السوفييتي عقب اجتياحه فنلندا في شتاء 1939؟ سؤال يطرحه اليوم من يظن أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يتسبّب في طردها من الأمم المتحدة، مثلما طُرد الاتحاد السوفييتي من عصبة الأمم، إثر اعتدائه على فنلندا. على الرغم من تشابه اللحظتين الشتويتين، لا يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، فوضع روسيا في الأمم المتحدة جدّ مريح، لكونها أحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، إلى جانب أميركا وبريطانيا وفرنسا والصين. تنتمي روسيا لنادي الخمسة الكبار الذي يتميز عن باقي الدول بتمتعه بحقّين: النقض (الفيتو)، وامتلاك الأسلحة النووية.
لم يكن توقيت الهجوم على أوكرانيا محض مصادفة، فقد اختار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تنفيذ هجومه خلال شهر فبراير/ شباط الذي تعود فيه رئاسة مجلس الأمن لروسيا، حتى يُظهر للعالم أن المنظمة وميثاقها يمنحانه حق تعطيل مشروع قرار يدين بأشد العبارات خرق بلاده هذا الميثاق. ولم تكن هذه المرّة الأولى التي ترفع فيها موسكو ورقة الفيتو الحمراء ضد مشروع قرار يندّد بغزوها أوكرانيا، فقد سبق أن استخدمته في جلسة مجلس الأمن ليوم 14 مارس/ آذار 2014، بعد ضمّها شبه جزيرة القرم الأوكرانية.
يستمتع بوتين بدكتاتورية صنع القرار الأممي، ورثها عن الزعيم السوفييتي، الدكتاتور جوزيف ستالين، الذي لم يقبل بالانضمام إلى الأمم المتحدة إلا بعد أن ضمن أن بلاده لن تُطرد ثانية من أكبر منظمة حكومية دولية. في صيف 1942، في أوج الحرب العالمية الثانية، طرح عليه الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، مشروع "رجال الشرطة الأربعة"، لإنشاء هيئة دولية يقودها الحلفاء (أميركا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي والصين)، وتتولّى ضبط العالم بعد الحرب. كان روزفلت يسعى إلى إحداث ميزان قوى جديد، يقوم على اقتسام مناطق النفوذ في العالم بين الحلفاء الأربعة، بحيث تمارس أميركا نفوذها في نصف الكرة الغربي، وتتحكّم بريطانيا في إمبراطوريتها وأوروبا الغربية، ويتسيّد الاتحاد السوفييتي على أوروبا الشرقية ووسط أوراسيا اليابسة، وتحتفظ الصين بنفوذها في شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ.
انضم الاتحاد السوفييتي للمنظمة، بعد أن حصل ستالين على سلاح "الفيتو"، الشّرط الذي لم يكن قابلا للتفاوض بالنسبة لروزفلت أيضا
على هذا الأساس، قبِل ستالين الدخول في مفاوضات دامت ثلاث سنوات، وأفضت إلى مشروع "منظمة الأمم المتحدة"، بعد أن تم تعديله وتجميله، وتوسّعت عضوية مجلس الأمن لتشمل فرنسا، الشرطي الخامس الذي فرضه رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ونستون تشرشل. انضم الاتحاد السوفييتي للمنظمة، بعد أن حصل ستالين على سلاح "الفيتو"، الشّرط الذي لم يكن قابلا للتفاوض بالنسبة لروزفلت أيضا. وكان الغرض الأساس من "الفيتو" حماية المصالح الحيوية للأعضاء دائمي العضوية، وضمان أن القرارات الهامّة لا يمكن اتخاذها إلا بموافقتهم جميعا، أي عندما تلتقي مصالحهم.
يضمن "الفيتو" أيضا ألا يتعرّض صاحبه لأي إجراء قسري، مهما كبُرت خطيئته، لأن الشُّرطي يُعاقِب ولا يُعاقَب، حسب منطق ميثاق الأمم المتحدة، رغم الحديث عن الحقوق والحريات والقانون والسيادة والسلم الدولي وغيرها من المثاليات التي جرى ضخّها في دستور المنظمة. في المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة سنة 1945، في سان فرانسيسكو الأميركية بمشاركة 50 دولة، اعترضت وفودٌ على سلطة "الفيتو" المطلقة، وجاء رد الخمسة الكبار في بيان: قد تترتب عن قرارات مجلس الأمن وإجراءاته عواقب سياسية وخيمة، وقد تتسبّب في أحداث قد تتطلب من المجلس، في نهاية الأمر، اتخاذ إجراءاتٍ قسريةٍ تمليها عليه مسؤولياته. .. وتبدأ سلسلة الأحداث هذه عندما يقرّر المجلس إجراء تحقيق، أو حين يقرّر أنه حان الوقت لدعوة الدول إلى تسوية خلافاتها، أو تقديم توصياتٍ إلى الأطراف. مثل هذه القرارات ينبغي أن يتوفر فيها إجماع الأعضاء الدائمين".
ومع ذلك، قبلت الدول بأن يُسلّط سيف "الفيتو" على رقابها، فعَلَّقَت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية يوم 7 مايو/ أيار 1945: "رغم تردّدها، وافقت الدول الصغرى على فكرة قيام دكتاتورية عالمية فعلية تقودها القوى العظمى". لقُبْحِها، لم تَرِد عبارة "الفيتو" في ميثاق الأمم المتحدة، إذ تم تلطيفها بعبارة "توافق الأصوات" (concurring votes). وتنصّ المادة 27 من الميثاق على أنه حين يتعلّق الأمر بالتصويت على المسائل الإجرائية في مجلس الأمن (المتعلقة بتنظيم عمله)، تصدُر قراراته بموافقة تسعة من أعضائه، بينما لا يتخذ المجلس قراراته الأخرى إلا بموافقة تسعة من أعضائه، بما فيها "أصوات الأعضاء الدائمين متفقة". وحتى يبدو وكأنه وُضعت قيودٌ على استعمال الفيتو، يضيف نص المادة: "بشرط أنه في القرارات المتخذة تطبيقاً لأحكام الفصل السادس والفقرة 3 من المادة 52 يمتنع من كان طرفاً في النزاع عن التصويت". وبما أن الفصل السادس، على عكس السابع، يتعلق بالحلّ السلمي للنزاعات، ولا يشمل أية إجراءات قسرية قد تصل إلى حد اللجوء للقوة، فبإمكان الخمسة الكبار أن يتمنعوا عن التصويت، من دون أن يلحق بمصالحهم أي ضرر.
اجتماعات مجلس الأمن بشأن أوكرانيا، بما فيها جلسة يوم الجمعة الماضي، نظرت في "الموقف في أوكرانيا"، ولم تَبُت في "النزاع" فيها
اللّافت في جلسة 25 فبراير/ شباط الجاري بشأن أوكرانيا أنها فضحت فساد الميثاق، فحين اتّهم مندوب أوكرانيا لدى الأمم المتحدة، سيرغي كيسليتسا، نظيره الروسي فاسيلي نيبيزيا، بأن رئاسته الجلسة تنتهك المادة 20 من الفصل الرابع للنظام الداخلي المؤقت، استدلّ بجزء من هذه المادة "الوفاء بمسؤوليات الرئاسة على الوجه الصحيح يقتضي منه (رئيس مجلس الأمن) ألا يرأس المجلس في أثناء النظر في مسألة بعينها ذات صلة مباشرة بالعضو الذي يمثله". تعمّد السفير كيسليتسا شطب بداية الجملة التي توضح أن القرار خياري، ويعود إلى تقدير الرئيس: "إذا رأى رئيس مجلس الأمن أن الوفاء بمسؤوليات الرئاسة.. إلخ". .. هذه القاعدة، كباقي قواعد المنظّمة، صُمّمت على مقاس الخمسة الكبار، حتى لا تقوّض سلطاتهم.
وفي الجلسة ذاتها، توجّهت مندوبة النرويج، مونا يول، بانتقاد إلى نظيرها الروسي: "احتراما لروح الميثاق، كان ينبغي على روسيا باعتبارها طرفا، الامتناع عن التصويت على هذا القرار". وتعمّدت، هي الأخرى، عدم توضيح الأمر الذي اعتبرت روسيا "طرفا" فيه. فَهِم الحضور الدبلوماسي في القاعة أنّها تقصد المادة 27 من الميثاق، ضرورة امتناع أي عضو من أعضاء مجلس الأمن عن التصويت حين يكون "طرفا في النزاع"، لكن الميثاق لا يقدّم تعريفا محدّدا للنزاع، ثم إن اجتماعات مجلس الأمن بشأن أوكرانيا، بما فيها جلسة يوم الجمعة الماضي، نظرت في "الموقف في أوكرانيا"، ولم تَبُت في "النزاع" فيها. وبهذا، يبطل شرط الامتناع الإجباري من تلقاء ذاته، وهو الشّرط الوحيد الذي يقيّد فيه الميثاق استعمال "الفيتو"، إلى جانب وجوب سماح الخمسة الكبار لباقي أعضاء المنظمة أن ينبهوا مجلس الأمن أو الجمعية العامة إلى أي نزاع أو "موقفا" (المادة 35).
إلى حدود نهاية الثمانينيات، كان الخمسة الكبار ملتزمين إلى حد معقول بلعبة رجال الشرطة، كان كل منهم يتحكّم في منطقة نفوذه
الميثاق المبجّل الذي كثر الحديث عنه في الآونة الأخيرة لم يترك ثغرة يمكن استغلالها للطعن في السلطة المطلقة التي منحها لرجال شرطة المنظمة. قواعد اللّعبة التي وضعها الطاغية ستالين ورفاقه الديمقراطيون قبل 77 عاما، يستحيل معها أن يقرّر مجلس الأمن أن أحد أعضائه الدائمين قد قام بعمل عدواني يهدّد الأمن والسلام الدوليين. لقد أخضع كل الدّول للمساءلة، باستثناء الأعضاء الخمسة المحصّنين، بل جعل منهم قضاةً ومحامين، وهم يتصرّفون كمُجرمين متّهمين.
واشنطن التي تندّد بغزو أوكرانيا، سبقت روسيا بكثير في غزو بنما وجزيرة غرانادا في الثمانينيات، وأسقطت عددا لا يحصى من الأنظمة المنتخبة ديمقراطيا من محمد مصدّق في إيران إلى إيفو موراليس في بوليفيا، وأحدثت زلزالا في الشرق الأوسط بغزوها العراق وتدميره، وزعزعت موازين القوى والتحالفات في المنطقة لصالح إيران وتركيا. ولم ترتفع أصوات واشنطن أو لندن حين اجتاحت روسيا أراضي الشيشان وجورجيا وأوسيتيا الجنوبية، أو عندما كانت فرنسا تحطّم الرقم القياسي لخوضها حروبا نيو- كولونيالية بمباركة مجلس الأمن ذاته: من حرب الإبادة الجماعية في رواندا إلى الحرب على الإرهاب في مالي، مرورا بتغيير أنظمة في ساحل العاج وليبيا.
إلى حدود نهاية الثمانينيات، كان الخمسة الكبار ملتزمين إلى حد معقول بلعبة رجال الشرطة، كان كل منهم يتحكّم في منطقة نفوذه، وحتى عندما تحوّل ميزان القوى من أوروبا إلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، ظلت الكتلتان مستقرتين، في إطار نظام القطبية الثنائية. لكن تفكّك الاتحاد السوفيتي ونمو الصين ولبرلة نظام الاقتصاد العالمي غيّروا قواعد اللعبة، أو بالأحرى غيّرتها واشنطن بالقوة، باعتبارها القوة العظمى الوحيدة، وتغيّرت سردية الهيمنة من "مناطق النفوذ" إلى "السياسة الخارجية" و"المصالح الحيوية" و"المنافسة الجيوستراتيجية".
من تبعات حروب الخمسة الكبار العبثية تحوّل النزاعات العربية المجمّدة بفعل مناوراتهم السياسية إلى قضايا محتجزة إلى ما لا نهاية
اقتحمت أميركا، شرطي عالم أحادي القطب، منطقتي المحيطين، الهندي والهادئ، وباتت تهدّد فضاء الصين الحيوي ومحرّك اقتصادها العالمي، بتحالفها مع اليابان وأستراليا والهند في إطار "الحوار الأمني الرباعي". وأصبحت تقلق فضاء روسيا الجيوستراتيجي أيضا، بتمدّدها عبر حلف شمال الأطلسي، نحو أوروبا الشرقية ودول البلطيق. تفاقم الوضع مع اندلاع الثورات الملوّنة، وطموح أوكرانيا إلى الانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، الخط الأحمر الذي جعل روسيا تسطو على شبه جزيرة القرم في مارس/ آذار 2003، وتخضع لعقوبات واشنطن وازدراء الرئيس الأميركي باراك أوباما الأسبق، الذي وصفها بـ"القوة الإقليمية".
غيّر أوباما أسلوب حروب الهيمنة الأميركية، بتركيزه على استراتيجية "التدخل الخفيف" في مسرح العمليات، وحروب الوكالة والدرونات، والرفع من قوة الحرب الاقتصادية التي واصلها خلفه، دونالد ترامب، ضد الصين، بعد أن أطلقت الأخيرة مبادرة الحزام والطريق التي أرعبت واشنطن وحلفاءها. ويسعى جو بايدن أن يمضي إلى أبعد حد ممكن في حرب اقتصادية مدمّرة ضد روسيا أولا، والصين لاحقا. في ظل هذه المتغيرات، اشتدّت المواجهة بين الخمسة الكبار، واندلعت حرب النفوذ على الأرض، وتحوّلت الدول العربية وأفريقيا إلى أكبر ساحةٍ لتنافسهم المحموم على الموارد والموانئ وأسواق السلاح، من سورية واليمن إلى ليبيا وحتى مالي. ومع تزايد تنافسهم، زاد انقسامهم بشأن النزاعات التي تدمّر الوطن العربي، وتحولت أسطورة حفظ السلام وجهود الوساطة إلى واقع إشعال الحروب وإطالة أمدها، وتوسيع رقعتها وأطرافها وازدياد تعقيداتها؛ حروب يؤجّجها الأعضاء الدائمون ويتاجرون في أسلحتها، وبعضهم أطراف مقاتلة فيها.
اليوم، وقد تحوّل مجلس الأمن إلى ساحة حرب اقتصادية وعسكرية وسياسية مفتوحة بين كبار أعضائه، وبلغ العداء بينهم حدّ فرض واشنطن وشركائها عقوبات على الرئيس بوتين وكبار مساعديه، لم يعد هناك أمل في توافق آرائهم في ليبيا، لبنان أو"الصحراء الغربية"، بل إن من شأن تبعات حروبهم العبثية أن تحوّل النزاعات العربية المجمّدة بفعل مناوراتهم السياسية إلى قضايا محتجزة إلى ما لا نهاية. لقد انتهت لعبة رجال الشرطة الخمسة، وحان وقت البحث عن حلول عربية للمشكلات العربية.