بوريل غير المرحّب به في إسرائيل
ليس من المبالغة وصف تصرّفات إسرائيل مع مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بالوقاحة، فالرجل، الذي زار المنطقةَ أخيراً (مصر ولبنان)، كان من المُفترَض أن يزور تلّ أبيب أيضاً، لكنّ الأخيرة أبلغته بأنّه لا يمكنها استقباله في الموعد الذي حدَّده، وأنّ عليه أن يُنسِّق موعداً جديداً لزيارته في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول المُقبل، أي بعد انتهاء ولايته، ما يعني رفض زيارته، والتعبير عن ذلك بسخريةٍ تُبطِن احتقاراً وإهانةً فجّة.
عندما يُذكر اسم بوريل يحضر على الفور اسمُ المفوّضة الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، وهما في طرفي نقيض إزاء حرب الإبادة على قطاع غزّة، فالأخيرة منحازة بلا أيّ تردّد في جانب إسرائيل، وقالت ذلك حرفياً، عندما هرعت لزيارتها بعد ستّة أيّام من هجمات 7 أكتوبر (2023)، وبسبب ذلك، كثيراً ما كانت تدخل في خطّ صلاحيات بوريل، بل تتجاوز مهمّتها نفسها، ما دفعه إلى انتقادها علناً غيرَ مرّة، على خلاف المألوف في طبيعة عمل المفوضية الأوروبية وتوزيع المهام فيها، فالسيدة كما قال لم تكن تمثّل إلّا نفسَها عندما زارت تلّ أبيب، وأعلنت من هناك دعم الاتّحاد الأوروبي "غير المشروط" لإسرائيل، لكنّ المفوضة الأوروبية ظلّت على موقفها هذا حتّى كُوفِئت بالتمديد لها ولايةً ثانيةً، بينما عوقب بوريل، واستُبدِلت به أخرى (كايا كالاس) في منصبه الشهر المُقبل.
ينتمي بوريل إلى أوروبا الأخرى، إذا جاز الوصف، المُتنحّية، اليسارية، على ميل إلى التوافق لا الصراع مع بقية العالم، ويعكس موقفه من إسرائيل تقييماً من داخل المعسكر المُؤيّد لإسرائيل والمنتمي للغرب الاستعلائي (لكن ليس الأعمى)، فهو ليس مؤيداً للفلسطينيين بقدر تأييده إسرائيل أخرى يريدها أكثرَ واقعيةً وقدرةً على البقاء، وهو ما لا يتأتّى من دون التزامها بالقوانين الدولية. ونظرة عُجلى إلى سيرته تؤيّد ما نذهب إليه، ففي بداية شبابه (في عمر 22 عاماً) زار إسرائيل عام 1969 متطوّعاً في كيبوتس غال أون، وهناك تعرّف إلى من ستصبح زوجته الأولى. ومثل أورسولا فان ديرلاين، زار بوريل إسرائيل بعد نحو أسبوعين من "7 أكتوبر"، وتجوّل في كيبوتس بئيري، الذي كان جزءاً من مسرح الهجوم، لكنّه على خلاف المفوّضة الأوروبية عبّر عن تأييده إسرائيل بلغة مختلفة، وبهدف كبحها، من دون أن يسلبها ما يُسمَّى حقّ الردّ، وهو في هذا يشبه أيَّ سياسي إسرائيلي مُعارِضٍ لبنيامين نتنياهو، مثل إيهود باراك أو إيهود أولمرت، منسجماً مع مقولات تأسيسية يتبنّاها، وتقوم على ثنائية "الحديقة - الأدغال"، أو "أوروبا - بقيّة العالم"، أو "الفيلا" وسط الغابة، فبقاء الحديقة الصغيرة والجميلة لا يكون ببناء الأسوار حولها، بل بالذهاب إلى الأدغال لتهذيب سلوكها وكبح غريزتها العدوانية، التي قد تدفعها لغزو الحديقة. يحدُث هذا بترسيم الحدود بين الجانبَين، بالقوّة أو بالحوار المستند بالطبع إلى القوّة القاهرة لخلع أسنان الوحش، الذي يتّخذ الغابةَ موئلاً.
اعتذر بوريل عن السياق العريض الذي بناه في سرده للغزو الروسي أوكرانيا، في كلمة ألقاها في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2022، لكنّ موقفه من محرقة غزّة يقوم على الفكرة الجوهرية نفسها، فكما أنّ عليك أن تحمي الحديقةَ بالذهاب إلى الغابة، عليك أن تحمي الحديقةَ نفسها من الغابة المتوحّشة في داخلها، أي من التطرّف في استخدام القوّة، التطرّف في إبعاد الآخر عنك، وإقصائه، بل إبادته في الحالة الغزّية. وإذا حدث هذا، فإنّما ليؤشّر إلى انتصار الغابة على الحديقة وليس العكس.
هل هذا يعني أنّ بوريل يتساوى مع أورسولا فان ديرلاين باعتبار ّأنّهما يصدران من أساس واحد؟ ... كلّا، بل يعني أنّ الغربَ ليس واحداً وإن كان كتلةً واحدةً، وأنّ أسسه الكُبرى قابلةٌ للتأويل ولمنح الشرعيات الداخلية لمواقفَ متناقضةٍ، وأنّ علينا أن نتفهّم ذلك ونفهمه، وندفع باتجاه تغليب جانب منهما على آخر، بما ينسجم مع مصالحنا، تماماً مثل وجوب تمييزنا بين نتنياهو وجدعون ليفي، فمن شأن غلبة أوروبا المتنحّية (ممثّلةً ببوريل هنا) هزيمة نتنياهو ومنطقه ومنطلقاته، أمّا القول إنّهما واحد فمن شأنه توحيدهما، أو على الأقلّ سلبنا مُناصراً كبيراً لا نجد أمثاله بين كثيرين من زعمائنا العرب، الذين يتحدّثون العربية مثلنا، لكنّهم يُعبّرون عن أنفسهم بعبرية "فصحى"، مع الاعتذار عن الاستعارة الفجّة.