بوليساريو أم استعباط قيس سعيّد؟
مشكلتان تُثقلان علينا، نحن أصحاب التعاليق في الصحافة، يتسبّب بهما رئيس تونس، قيس سعيّد: أولاهما غزارة عجائبه، ليس في الوُسع "التفرّغ" لمتابعتها والإضاءة على ما في كل واحدةٍ منها من شذوذٍ عال، وازدراءٍ ظاهرٍ لألف باء السياسة والحكم وطبائع العقل البشري، سيما أن الرجل، يبرَع، أحيانا، في أن يجعلنا لا نقدر على توقّع غرائبه المتتابعة. الثانية أن نجاحات الرجل مذهلةٌ في تنزيل ما تأتي به أخيلتُه ومداركُه من قوانين ودساتير وتشريعاتٍ وأوامر واستفتاءاتٍ واستشاراتٍ وقراراتٍ على أرض تونس وناسِها. لا شيءَ أبدا يعوقه، ولا مصدّات تكبح مضيّه في الذي يعنّ له، لا النِّسب المتدنّية لمن يستطيبون استفتاءاته واستشاراته الإلكترونية وغيرها، ولا اعتصامات أو احتجاجات. وأمرُه هذا في مسألتيه هاتين يجعلنا، نحن كتّاب الرأي، نشعرُ بأننا مثل الذين ينفخون في بالوناتٍ مخزوقة، عدا عن ضجرٍ صار يغشانا من رتابة هذا الحال في تونس، وقد أصبح عُظام قيس سعيّد هناك يستنفر فينا كآبة حادّة.
مناسبة الإتيان على البديهية أعلاه أن سعيّد مارس استعباطا مكشوفا، وتشاطرا ركيكا، في تسويغ استقباله الرئاسي المعلن، يوم الجمعة الماضي 26 أغسطس/ آب الحالي، رئيس جبهة بوليساريو، إبراهيم غالي، وقد أقدم في هذا على ما لم يأتِه أي رئيسٍ عربيٍّ (باستثناءاتٍ جزائرية) منذ أشهرت الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (بوليساريو) نفسَها في 1973، ومنذ أعلنت هذه ما سمّتها "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" في 1976. وإذا راق لمحبّي الأخذ والردّ في قصة اعتراف الاتحاد الأفريقي بهذه "الجمهورية" عضوا فيه، واستضافة تونس منتدى أفريقياً يابانياً تشارك الجبهة في اجتماعاته، القول إن هذين البعديْن يجيزان البروتوكول، الأول من نوعه، الذي أدّاه سعيّد مع غالي، وهذا كله فقير الحجّة في بدئه ومختَتمه، فإن الأدْعى إلى أن يكون الحسّ السياسي المفتقد في فعلة الرئيس التونسي هذه هو وجهة النقاش، وكذا انعدام الحصافة التي تولي حساباتٍ أوْلى وأعلى مكانةً من المكوث في جدلٍ بائسٍ بشأن ذلك الاعتراف من جانب المنظمة الأفريقية. ولو سلّمنا جدلا، والأفضل أن لا نسلّم لا جدلا ولا غيره، أن "نصوصيّة" قيس سعيّد تُعلي "المرجعيات القانونية الأفريقية ذات الصلة بتنظيم المؤتمرات واجتماعات الشراكات"، بلغة بيان الخارجية التونسية، فأجازت وجود علم "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" في مقصورةٍ رئاسيةٍ موازيا العلم التونسي، فإننا هنا نكون أمام ما هو شديد الغرابة في إزاحة علويّة مصالح تونس واعتباراتها المحضة على أي تأويلٍ لاعتبارات خارجية.
ما يزيد في منسوب الاستعباط المتحدّث عنه غرابةً أن وكالة الأنباء الرسمية التونسية لمّا طيّرت خبر استقبال سعيّد رسميا، وبمراسيم رئاسية، ضيفَه إبراهيم غالي في مطار قرطاج، لم تعط الأخير حيثيةً أو موقعا أو منصبا، فبدا غُفلا من أي صفة، وكأن رئيس تونس يخصّ بهذا الاستقبال شخصا من جيرانه في أيام صباه، حتى إذا أعلنت الرباط غضبها الشديد في بيانٍ بدا مُحكما، وإنْ جرعة الانفعال الحانق عاليةٌ فيه، ردّت الخارجية التونسية ببيانٍ أوضحَ، من دون حرج، أن مشاركة وفد "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، بهذه التسمية لا بغيرها، في المنتدى الياباني الأفريقي في تونس، تأتي بعد مخاطباتٍ ومداولاتٍ وإجراءاتٍ خاض فيها الاتحاد الأفريقي. ويتأكّد في هذا الموضع أن شياطين كانت في التفاصيل، أودت بتفاهمٍ مغربيٍّ ــ تونسيٍّ سبق هذا كله بشأن مشاركة الرباط ودعوة من تذهب إليهم دعواتٌ موقّعةٌ من الرئيس التونسي ورئيس الوزراء الياباني، والبيان التونسي يشرح ما هو ناقصٌ في البيان المغربي، أي طبخُ دعوة "الجمهورية الصحراوية" ورئيسِها.
لو أن عقلا سياسيا خبيرا وحاذقا، وعلى نباهةٍ وحكمة، وعلى بعض الدهاء والذكاء، يقيم في قصر قرطاج الرئاسي، لكان في وُسعه أن يتفادى توريط تونس في مأزقٍ سياسيٍّ ودبلوماسيٍّ غير هيّن مع بلد مركزي في الفضاء المغاربي، يجب أن تبقى الروابط معه أوْلى من أي ترضياتٍ عابرةٍ لهذه الجهة أو تلك الدولة، لكان في وُسعه أن يؤمّن مشاركةً لـ"بوليساريو" في منتدى الشراكة في اليابان، وأن يضمن حضور المغرب، فلا نكون أمام تنطّعٍ بائس، نشاهد في غضونه علم دولةٍ لا تعترف بها تونس نفسها في مقصورةٍ رئاسيةٍ (!)، وأمام نوبةٍ أخرى من ركاكات قيس سعيّد التي يُراد لنا، غصبا عنا، أن نتعايش معها .. إلى متى؟