بيرنز ومتلازمة "بناء الثقة"
بعد صدور تقرير لجنة ميتشل لتقصي الحقائق، والتي تشكلت في مؤتمر شرم الشيخ للسلام في أكتوبر/ تشرين الأول 2000؛ لبحث أسباب اندلاع انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الفلسطينية الثانية)، زار وزير الخارجية الأميركي آنذاك، كولن باول، منطقة الشرق الأوسط في منتصف يونيو/ حزيران من العام 2001، للحصول على رد واضح من الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، على الجدول الزمني الذي وضعته واشنطن لتنفيذ خطة ميتشل، ثم تابع المبعوث الأميركي الخاص، وليام بيرنز، رئيس وزراء إسرائيل إرييل شارون والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على ذلك الجدول. وأفيد بأن نقاطا رئيسية في خطة أميركية سوف يجري إلحاقها بتوصيات لجنة ميتشل، تتضمن إعلان الولايات المتحدة عن بدء فترة تهدئة من المرجّح أن تكون أقصر مما ترغب فيه إسرائيل (حوالى خمسة أسابيع). وخلال هذه الفترة، يتخذ كلا الطرفين إجراءات لاستعادة الوضع في الأراضي الفلسطينية إلى ما كان عليه قبل الانتفاضة، يتبع ذلك فترة لبناء إجراءات الثقة تمتد ثلاثة أشهر، حيث يطلب من إسرائيل تجميد كل أنشطة البناء الاستيطاني، في وقت يُطلب فيه من الفلسطينيين جمع الأسلحة غير الشرعية واستئناف التعاون الأمني وإنشاء هيكل قيادة وسيطرة موحد على مختلف تشكيلاتها الأمنية. ومع انتهاء فترة إجراءات بناء الثقة يجري استئناف مفاوضات الوضع النهائي استنادا إلى الجهود التمهيدية التي تمت خلال فترة بناء الثقة.
وبعد مرور ما يزيد على عشرين سنة، عادت حليمة إلى عادتها القديمة، وعاد وليام بيرنز إلى المنطقة، هذه المرّة بصفته مدير وكالة المخابرات الأميركية (CIA) للقاء المسؤولين في إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ليتابع الحديث عن إجراءات بناء الثقة بين الطرفين، خطوة أولى من الجهود الأميركية الرامية إلى إعادة إحياء المسار السياسي عبر مرحلتين، تتعلق الأولى بإجراءات بناء الثقة، والثانية تهتم بإعادة إطلاق المفاوضات السياسية.
ولأن الراهن الفلسطيني السياسي يشبه الأمس، بل أسوأ، هرولت القيادة الفلسطينية وقدّمت 33 مطلباً لإعادة بناء الثقة، أهمها، "وقف الإجراءات أحادية الجانب التي تجحف بقضايا الحل النهائي، وفي مقدمتها الاستيطان"، الذي كان يتقدّم مطالب إعادة الثقة قبل عشرين سنة. في المقابل، تطورت المطالب الاسرائيلية، لأن القديم منها تم إنجازه، والجديد المطلوب مقابل بناء الثقة هو وقف دفع السلطة رواتب أسر الأسرى والشهداء، وتغيير المنهاج التعليمي الفلسطيني وغيرها".
يتمتع بيرنز بتاريخ طويل في مفاوضات السلام في الشرق الأوسط. ويتقن، وهو الدبلوماسي المخضرم، فن إعادة عقارب الساعة الى الوراء عشرين سنة، كما يتقن تدوير الزوايا، وقد تمرّس في ذلك عندما ترأس فريق المفاوضيين الأميركيين في المحادثات السرّية التي مهدت الطريق، في النهاية، للاتفاق النووي الإيراني عام 2015، وعندما انخرط في العام 2001 في مفاوضات مع العقيد الليبي الراحل، معمر القذافي، للوصول إلى تسوية قضية لوكربي، وتفكيك البرنامج النووي الليبي. ويبدو بيرنز من أتباع مدرسة القوة الناعمة في تنفيذ السياسة الخارجية، وقد أوصى في مذكّرة "العاصفة المثالية" التي قدّمها الى وزير الخارجية آنذاك، كولن باول، بعد أحداث "11 سبتمبر" (2001)، بضرورة تغيير الولايات المتحدة سياساتها الخشنة، وتبنّي أجندة إيجابية تساعد في الحد من اليأس والغضب الذي يستغله المتطرّفون.
يعود وليام بيرنز إلى المنطقة لبناء (أو إعادة بناء) ثقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ولعله يُدرك أن سنواتٍ عجافا طويلة مرّت منذ جلس حول الطاولة مقابل الراحل حيدر عبد الشافي في مؤتمر مدريد للسلام، تبدّدت عبرها ثقة الفلسطيني بأي إدارة أميركية تحاول حل الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي بمقارباتٍ قديمة ومستهلكة، اتسمت بتخدير الفلسطيني بمسكّنات مع السكوت عن سياسات إسرائيل في الاستيطان والتهويد والعدوان المستمر... هل تنجح أي مساع لإحياء المسار السياسي بين السلطة وإسرائيل قبل ترميم الثقة المنهارة بين المواطن الفلسطيني وسلطة الرئيس محمود عباس، التي تآكلت شرعيتها الشعبية بعد انتهاء شرعيتها الدستورية؟