بين الإعلام والإعلام الحربي
لا ضرورة للرجوع إلى التنظيرات الأكاديمية وسرديات المدارس الإعلامية المختلفة لبيان ماهية الإعلام الحديث وبسط مكوناته الأساسية. ولا حاجة بنا لتعريف الإعلام إلا بصفته إعلاماً، شرط أن يكون تعدّدياً ومستقلاً، إذ تكفي معرفة أنّ التصحر السياسي والظلام التام سيسودان دروب الحياة المدنية، إن افتقرت المجتمعات المعاصرة إلى مؤسّسات إعلامية مرئية ومقروءة ومسموعة حرّة مواكبة روح العصر، ناهيك عن شيوع مظاهر الاستبداد والشمولية، إذا انحجبت منابر التواصل ومنصّات التفاعل وغيرها من منتجات ثورة الاتصالات الرقمية. كما لا تستكمل العملية الإعلامية هويتها، ولا تتحقّق غايتها، إلا بقدرتها على تمثّل مختلف المواقف، والتعبير عن سائر الآراء المتفاعلة.
في مقابل ذلك، يتمظهر "الإعلام الحربي" الطارئ على ميدان الأنشطة الاتصالية، بفلسفته الأحادية، وبمخرجاته المتحكّم بها من سلطةٍ مركزيةٍ تخشى الإعلام، وتحتاجه، في الوقت ذاته، أداة إضافية للفرض والإملاء والهيمنة، ووسيلةً رقابيةً لتوجيه الرأي العام، وتعمية الأبصار، وتكميم الأفواه، إن لم نقل عصاً قمعيةً غليظة، لتحقيق مزيد من التغطية على الحقائق، ومنع كلّ نقاشٍ محتملٍ بشأن الوقائع الجارية، وذلك من خلال إسناد الرواية الإخبارية المغربلة إلى مرجعية عسكرية مُهابة، يُحظر على عامة الناس الطعن فيها، أو حتى مجرّد التشكيك بصدقية ما يصدُر عنها، خصوصاً في أثناء الحروب الأهلية والصراعات الخارجية.
ليس معروفاً على وجه الدقة متى جرى اشتقاق هذا المصطلح المضلّل، ومن هي الدولة التي وضعته قيد الاستعمال، وبنت عليه سياسة إعلامية بائسة، فيما الغاية من استخدامه معروفة، وسيلة من وسائل بث الأخبار الموجّهة عبر أداتي السلطة القديمتين، الإذاعة والتلفزيون. وعليه، قد يكون جذر "الإعلام الحربي" هذا مستمدّاً من ثقافة الانقلابات العسكرية، بما في ذلك البيان رقم واحد، الصادر باسم مجلس قيادة الثورة. وقد يكون من لدن المليشيات والفواعل من غير الدول، ممن أدمنوا هذا التعبير الفالت، وبرعوا في ترويجه على أوسع نطاق ممكن.
ولعل أشدّ تجليات بواطن الاختلاف بين كلّ من الإعلام بمفهومه الحديث والإعلام الحربي بنبرته الاستعلائية المدوية، وربما أكثر ما ينطوي عليه الأمر من تناقضات حادّة، ومفارقات فارقة بين الاثنين ما يفيض به المشهد الأوكراني، في هذه الآونة، من رواياتٍ إخبارية متضاربة، وما يزخر به الموقف المتغير كلّ يوم من وقائع متناقضة، لا يخلو بعضها من المبالغات المعهودة وقت الحرب على "الجانب الأوكراني" وبعضها الآخر ممتلئ بالأكاذيب، ويفتقر للمصداقية على الجانب الروسي الذي يلجأ إلى النفي والإنكار دائماً، ناهيك عن قلب الحقائق الموثقة بالصوت والصورة، الأمر الذي عجّل في سقوط بدعة الإعلام المنتَج في معامل وزارة الدفاع الروسية، وسرّع في تحطم نموذجها المُحنّط على أيدي جهاز الدعاية العسكرية، الأمر الذي قد يؤدّي إلى انقضاء عهد البروباغندا سيئة السمعة، أو على الأقل انثلام حدّ سيفٍ أكل عليه الدهر وشبع.
لم يتحقق كلّ هذا الانكشاف لعبثية الإعلام الحربي، بنسخته الروسية المتهرئة، وتنجلي مخرجاته عن عدميةٍ مفرطة، جرّاء هبوط الأداء النمطي فقط، وإنما أيضاً بفضل فاعلية الإعلام الجديد، وكثافة تقنيات الصورة في زمن الفضاءات المفتوحة، ومنها الهواتف المحمولة التي جعلت المواطن في عين المكان مراسلاً مؤهلاً، وشاهداً عن كثبٍ على البيّنات والوقائع فور حصولها، في غياب المراسلين الحربيين المتنقلين على خطوط القتال، وحظر وجودهم مع القوات الغازية.
وأكثر من ذلك، خلت موسكو من مكاتب المراسلين الغربيين، المشهود لهم بالكفاءة والجرأة خلال مرافقة الجيوش على خطوط النار، بعدما تعذّر عليهم العمل جرّاء الأجواء غير الآمنة، والقيود الأمنية الصارمة المفروضة على رسائلهم الإخبارية، فيما تحوّل مراسلو قنوات فضائية عربية، على سبيل المثال، وبفعل تلك القيود والممنوعات، إلى ناطقين باسم وزارة الدفاع الروسية التي لا تعرف الشفافية أو الانفتاح.
بكلام آخر، فإنّ "الإعلام الحربي" ليس أكثر من كذبة كبيرة، أنتجتها غرف عمليات حربية تشتغل خلف أبواب موصده، دفعت بها وراكمت عليها أجهزة استخبارية لا ترى حولها إلا ما تحبّ أن ترى، ثم استثمرت فيها سلطات استبدادية ضيقة الصدر، قليلة الفهم، لا تقيم وزناً للرأي العام، ولا تحترم التعدّدية والحرية، لا سيما أنّها لا ترعوي عن انكشاف أضاليلها، وليس هناك من رقيب أو حسيب يسائلها.