بين الحوار والاقتتال في السودان
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
لم تكن مبشرةً بدايةُ الحوار السوداني الذي انطلق في الخرطوم الأربعاء الماضي، برعاية الأمم المتحدة وشركائها الإقليميين في الخرطوم، إذ قاطعه أغلب وأهم معارضي الوضع القائم وأهمهم، بينما شاركت فيه القوى الأقرب للنظام. والأصل في الحوار أن يكون بين المتحاربين أو المتخاصمين، وليس بين المتوافقين! في المقابل، كلّ بدائل الحوار هي في العادة الأسوأ. ولعلها مفارقة أنّ عسكر السودان الحاكمين رحّبوا بالحوار الذي يرفضه المعارضون، بخلاف ما عليه الحال في معظم الدول العربية والأفريقية المضطربة. أما المفارقة الأخرى، فإنّ بعثة الأمم المتحدة في السودان، التي يعارض العسكر وحلفاؤهم وجودها ودورها "الاستعماري" كانت من تبنّى الحوار مع شركائها في منظمة تعاون دول شرق أفريقيا (إيغاد) والاتحاد الأفريقي. وقد كان واضحاً، منذ البداية، أنّ اتهامات معارضي البعثة التي أسّس لها رئيس الوزراء المقال عبد الله حمدوك، بأنّها مؤامرة على سيادة السودان قامت على سوء فهم، أسّست له أماني الغرور عند بعضهم، وهواجس متوهّمة عند آخرين، فقد كان واضحاً، حتى قبل انقلاب البرهان في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أنّ البعثة لن تتبنّى مطالب طرف في السودان على حساب آخر. بل إنّ الحضور الأممي، بدعمه الحتمي حقوق الإنسان، كان سيعارض سياسات الإقصاء، ويؤيد التحول الديمقراطي والحوار بين الفرقاء، فالبعثة الأممية ليست دولة كبرى حتى تضغط على نظام قائم لكي ينصاع لإملاءات المعارضة، فضلاً عن أن تكون حلف شمال الأطلسي أو حتى قوات الدعم السريع، لتجبر النظام على تبنّي شروط المعارضة المسبقة بحل نفسه وتسليم السلطة لآخرين. فغاية ما يسمح به تفويضها تقديم مبادرات تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة وتهيئة الجو للتصالح والتعاون. وعليه، فإن من يحملون شروطهم التعجيزية إلى البعثة والوسطاء ويطالبونهم بفرضها على الطرف الآخر يضيعون وقتهم، لأن هذه ليست مهمة الوسطاء.
من يرفض الحوار في وقت بعينه يضطرّ، في الغالب، إلى القبول به تحت ظروف أصعب، ويقبل بأقل كثيراً مما كان يطمع فيه
ومن تجربتي الطويلة في الحوارات السودانية، فإنّ أقرب حكمة تُستنتج أنّ من يرفض الحوار في وقت بعينه يضطرّ، في الغالب، إلى القبول به تحت ظروف أصعب، ويقبل بأقل كثيراً مما كان يطمع فيه. وكانت آخر هذه التجارب الحوار الذي كلفني المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالإشراف عليه، وعقد في منتصف فبراير/ شباط 2019، أي بعد أقل من شهرين على تفجر ثورة ديسمبر، واستمرّ يومين في الدوحة. فقد طرحت فيه مبادرة ملخصها أن يعلن الرئيس عمر البشير قراراً بعدم الترشّح للانتخابات المتوقعة في 2020، ويتفاوض لتشكيل حكومة مقبولة من المعارضة، تقوم بإدارة فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات. في هذه الفترة، يسمح لكلّ الأحزاب السياسية بالعمل، وتضمن حرية الإعلام والعمل المدني، ويتم التوافق على دستور جديد، وقانون انتخابات ولجنة انتخابية متفق على كفاءتها وحياديتها، تمهيداً للانتقال إلى نظام ديمقراطي كامل. رفض ممثلو النظام (غير الرسميين طبعاً، فلم توجّه الدعوة إلى أطراف رسمية) المقترح، حيث كانوا في غاية الاستخفاف بالاحتجاجات التي رأوها وقتية وضعيفة، ولا تمثل تهديداً للنظام. أما المعارضون، وهم جل الحضور، فكانت فكرة الحوار مع النظام بأي مستوى مرفوضة عندهم تماماً، وكانوا يتمسّكون بشعار "تسقط بس".
لم يمضِ شهران إلّا كان البشير وأركان نظامه في السجن، ولم يمضِ شهران آخران إلّا والمعارضة ضحية مجزرة بشعة، ثم، الأسوأ، لم يمضِ شهران آخران إلّا وقّع المعارضون اتفاق مشاركة في الحكم مع المتهمين بالمجزرة، فلا جدال أنّ الخيار الذي طرح في حوار فبراير كان أفضل بكثير للجميع، وللوطن، مما تبع... ولا يستند حكمنا بأفضلية الحوار على هذه الحالة، بل إنّ التجربة الإنسانية كلها تشير في هذا الاتجاه.
انتهت المفاوضات في نيجيريا نهايةً غير متوقعة، حيث قرّر جناحا الحركة الشعبية أن يتحدا على طلب واحد هو تقرير المصير
وبحكم متابعتي اللصيقة مسارات السلام السودانية، خصوصاً مسار الجنوب، يمكن تعميم هذا الاستنتاج. وأذكر هنا أنني كنت طرفاً في أول مبادرة سودانية خالصة في مجال السلام، وذلك عبر لقاء جمعني مع الصديقين، فرانسيس دينق وبونا ملوال، في أتلانتا في يناير/ كانون الثاني 1992. بادر فرانسيس بنقاش أدّى إلى توافق ثلاثتنا على صيغةٍ تحدّد نقاط توافق يمكن أن تطلق عملية سلام سودانية - سودانية. وبالفعل، عكفنا عدة أيام على صياغة ورقة من صفحتين، أرسلناها إلى الحكومة في الخرطوم. وبعدما تلقينا موافقة مبدئية من الحكومة على الوثيقة، سافر فرانسيس وبونا إلى نيروبي في مارس/ آذار، حيث التقيا زعيم الحركة الشعبية، العقيد جون قرنق. وبحسب فرانسيس، رفض قرنق مجرد الاطلاع على الورقة، وطرحها جانباً، قائلاً إنّ الوقت لم يكن مناسباً للتفاوض، بسبب ضعف الحركة الشعبية وانقسامها، وإنّ الحكومة تريد من الطرفين التنافس حول "الفتات" الذي تلقيه إليهما.
المفارقة أنّ جناحي الحركة حضرا بعد شهرين فقط إلى أبوجا (عاصمة نيجيريا) لمفاوضات مع الحكومة، كان كاتب هذه السطور من شهودها والجولة اللاحقة لها. وليس سرّاً أن تغيير الرأي كان بسبب ضغوط أفريقية وغربية قوية. انتهت تلك المفاوضات نهايةً غير متوقعة، حيث قرّر جناحا الحركة أن يتحدا على طلب واحد هو تقرير المصير. ولأنّ قرنق لم يوافق على هذه الصيغة، فإنّ رئيس وفد الحركة الشعبية التابع له، وليام نون، انشقّ عنه، وقتل في ما بعد. انعقدت جولة ثانية من المفاوضات في عام 1993، هذه المرّة مع جناح قرنق وحده. ومن المدهش أن هذه الجولة حققت تقدّماً كبيراً، نسف عندما قرّر الوسطاء النيجيريون إنهاء المفاوضات بصورة مفاجئة، وضد رغبة الطرفين. وجاءت الضربة القاضية، حين ألقى رئيس وفد الحركة سلفا كير خطاباً حافلاً بالتهجّم على الحكومة ووفدها، ما عصف بروح التفاهم التي سادت المفاوضات حتى تلك اللحظة.
بسبب تغير الأوضاع في نيجيريا، وما رافقه من تغييرات في المنطقة شملت قيام نظم جديدة في إثيوبيا وإريتريا، انتقلت المفاوضات إلى نيروبي برعاية منظمة إيغاد، وشاركنا في جلساتها أيضاً، ما عدا الجلسة الأخيرة التي شهدت انهيارها بسبب الخلاف على إعلان المبادئ الذي طرحته دول "إيغاد" وخيّر النظام بين العلمانية والانفصال. وتوقفت المفاوضات بعد ذلك حتى عام 1997، حينما قبلت الحكومة بالإعلان.
لم يحقّق تعنت الحركة الشعبية، وتهربها من التفاوض، لها ما أرادت من الانفراد بحكم السودان وإسقاط نظام الإنقاذ، بل اضطرّت، في نهاية الأمر، إلى مشاركته الحكم
شهدنا الجلسة الأولى لاستئناف المفاوضات في نيروبي في نوفمبر/ تشرين الثاني 1997، في إطار مجموعة شملت، إضافة إلى شخصي، كلا من فرانسيس وبونا، وعبد القادر محمد من إثيوبيا، والسفير بيثويل كبلاقات، وكيل وزارة الخارجية الكينية الأسبق. وكانت المجموعة تشمل أيضاً السفير محمد سحنون من الجزائر وعبدالله أحمد عبدالله، مدير جامعة الخرطوم الأسبق وقتها، ولكنهما لم يحضرا تلك الجولة. وقد ظلت هذه المجموعة تعمل بصورة تطوعية استشارية لمنظمة إيغاد بين عام 1995 والسنوات الأولى من القرن الحالي. وكان واضحاً وقتها أن مسارات التقدّم لم تكن مشجعة. حيث شهدت تلك الجولة وصول ممثل الرئيس الأميركي كلينتون لإخطار وزير الخارجية وقتها ورئيس الوفد، علي عثمان، بقرار فرض عقوبات على السودان. في تلك الجلسة، سمعت لأول مرة من علي عثمان موقفاً متشدّداً، أن النظام السوداني لن يقبل أبداً بتقرير المصير للجنوب، مضيفاً أنّه لو أصبح فصل الجنوب لا مناص منه، فإنهم سيتركون الحكم لجهة أخرى تتولى الإشراف على الانفصال.
المفارقة أن هذه المصارحة الكفيلة بنسف المفاوضات جاءت بعد لقاء جمعني وإياه مع كل من فرانسيس وبونا وعبد القادر، لم يصرّح فيه بهذا الموقف. وقد وضعني هذا في موقف حرج: هل أصارح الزملاء بما سمعت أم لا؟ وقد اخترت الصمت، رغم فهمي أنّ علي عثمان كان يريدني إيصال هذا الرأي إلى الحركة.
المفارقة أنّ علي عثمان أشرف في ما بعد شخصياً على فصل الجنوب، ولم يتقدّم حتى باستقالة من الحكومة! وكنا قد استبقنا ذلك بالاجتهاد في طرح أفكار كان يمكنها أن تبعد شبح الانفصال (شاركني فرانسيس بكتابة ورقة أكاديمية نشرناها معاً في أثناء الفترة الانتقالية). بالقدر نفسه، لم يحقّق تعنت الحركة الشعبية، وتهربها من التفاوض، لها ما أرادت من الانفراد بحكم السودان وإسقاط نظام الإنقاذ، بل اضطرّت، في نهاية الأمر، إلى مشاركته الحكم، في فترة كان قوي فيها عودُه، واستفاد من موارد نفط الجنوب، ولقي قبولاً دولياً وإقليمياً أكبر. ولم يؤدّ الانفصال إلى الانعتاق والرخاء الموعود، بل جعل الجنوب من أفقر البلدان وأقلها حرية، وشهدت فترة ما بعد الانفصال فظاعاتٍ لم تشهد مثلها طوال حروب الجنوب التي امتدت في مجملها 39 عاماً. وقد دمّرت الحرب البنية التحتية الضعيفة أصلاً في الجنوب، وأعادته إلى ما دون الصفر.
يجب أن يكون بناء المؤسسات بروح المعارضة، وهدفه ليس تكريس السلطة، وإنما ضمان حق المعارضة وأمنها، فلا تدري أي جماعةٍ متى ستكون في المعارضة!
وقع الشيء نفسه في دارفور التي أرهقتها ويلات الحرب تقتيلاً وتدميراً، وشرّدت أهلها وقسمتهم تقسيماً. وقد أبلغني الفريق إبراهيم سليمان، الذي كان حاكم دارفور عند اندلاع القتال في مطلع عام 2002، إنه كان رتّب صفقة لإيقاف الحرب، لم تكن تكلف الكثير من الإنفاق والتنازلات، إلا أن الرئيس البشير ومدير جهاز أمنه رفضاها، واتهماه بالانحياز للتمرّد بسبب انتمائه العرقي (رغم أنه كان من قادة الإسلاميين وشغل منصب وزير الدفاع قبل ذلك). وبحسب إفادته، وعد مدير جهاز الأمن وقتها، صلاح قوش، الرئيس بأنه سينهي التمرّد خلال أسبوع. وهو أسبوع يبدو أن مقداره عشرون عاماً مما يعدّ البشر الفانون من أمثالنا.
خلاصة الأمر أنّ أوهام السياسيين وأخطاء التقدير لديهم تكلّف المواطن الذي يدّعون تمثيله القليل المتاح له، مقابل وعود سراب. ويؤدّي قصر النظر، وتقديم مصلحة القلة على الكثرة، إلى ما نراه من إهدار الفرص. ولا يلقي هؤلاء بالاً لإلحاح العقلاء على تبصر العواقب، إلا ضحى الغد، أو بعده بدهر، بعد أن يكون كل شيء قد ضاع!
وحتى لا يكون حديثنا هذا من العموميات، فإننا نعيد نصح كل فصائل السودانيين وطبقاتهم بما نصحنا به البشير ومعارضيه في فبراير/ شباط 2019: فليفعل الفريق عبد الفتاح البرهان ومجموعته (أو الجيش السوداني ككل) ما لم يفعله البشير: إطلاق فترة انتقالية جديدة، لا تزيد عن عامين هذه المرّة. يتولى الجيش فيها سلطة شكلية، تشبه نظام سوار الذهب عام 1985، وتقودها حكومة وحدة وطنية لا تُقصي أحداً. يجب ألّا ينشغل حكام الفترة الانتقالية بأي تنازع سياسي، أو عمليات انتقامية، ولا ينخرطون في مشاريع كبرى. بل يجب أن يكون همّهم معالجة القضايا الاقتصادية والإنسانية الملحّة، وبناء المؤسسات، بداية بلجنة الانتخابات وقانونها، ثم الدستور الانتقالي. (وبهذه المناسبة، دستور 2005 الانتقالي هو أفضل نقطة بداية، فقد ارتضاه كلّ السودانيين وقتها، ودعمه العالم كله، وساهمت الدول الكبرى والأمم المتحدة في صياغته). وكما ذكرنا، في مرّة سابقة، يجب أن يكون بناء المؤسسات بروح المعارضة، وهدفه ليس تكريس السلطة، وإنما ضمان حق المعارضة وأمنها، فلا تدري أي جماعةٍ متى ستكون في المعارضة!
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"