بين الهرولة والانبطاح
في المطلق، كل ممارسة رياضية للكائن البشري، وحتى للحيوان، هي نشاطٌ تنجم عنه سلسلة من الفوائد الصحّية التي تنعكس إيجاباً على العقل والجسد. وقد وصلت أهمية ممارسة الألعاب الرياضية، بمختلف أشكالها، إلى أن الإبداع البشري قد انبثقت منه عبارةٌ تتناقلها الأجيال، يقول فيها صاحبها: "إني أرى في الرياضة حياة". هذا المُنظّر الفلسفي، كان قد حكم بلاده عقوداً حُرمت خلالها جموع رعاياه الحقّ في التعبير وفي التنقل وفي التنظيم، وحتى أحياناً، في الحياة. وبعيداً عن الإعجاز شبه المقدّس في تركيب هذه العبارة، والذي له دارسوه ومفسّروه ومحلّلوه، وقريباً من أرض الواقع المرّ الذي تعيشه المنطقة العربية بمجملها، فإن التجربة السياسية والمراجعة التاريخية أثبتتا أنه ليست كل الرياضات محمودة العواقب ومرجوّة الممارسة من هذا الطرف أو ذاك، وذلك تبعاً للظروف القائمة والغاية المرجوّة.
الرياضات العقلية، مثلاً، يمكن، مع تطوّر ممارستها والاستفادة من نتائجها، أن تؤدّي عملاً وفعلاً إلى ما لا يُحمَدُ عقباه في تغيير مصائر دولٍ، مستقرّة، ذات أنظمة مستبدّة متسلطة على حيوات رعاياها منذ عقود، لأنها، والعياذ بالله، تسعى لأن "يعرف الناس حقيقة أنَّ الحرية أفضل من الحياة، وأن يعرفوا النفس وعزَّها، والشّرف وعظمته، والحقوق وكيف تُحفظ، والظلم وكيف يُرفع، والإنسانية وما هي وظائفها، والرّحمة وما هي لذّاتها"، كما كتب عبد الرحمن الكواكبي منذ نيّف ومئة عام.
مراكز القرار المستبدّة، وهي التي تحقق أوسع انتشار وهيمنة عربياً، ترى في الرياضة وسيلة لإشغال العامّة عن الاهتمام بالشؤون العامة
في المقابل، تسعى كل أنواع الإدارات السياسية لنشر (وتطوير) ممارسة مختلف أنواع الرياضات الجسدية في أوساط رعاياها، وذلك في دول التسلط والاستبداد، أو في أوساط مواطنيها، وذلك في دول الحريات النسبية والمواطنة الكاملة. مراكز القرار المستبدّة، وهي التي تحقق أوسع انتشار وهيمنة عربياً، ترى في الرياضة وسيلة لإشغال العامّة عن الاهتمام بالشؤون العامة. وكذلك، هي تستغل الانتصارات الرياضية خارج حدودها، إن هي حصلت في ظل منظومة الفساد والمحسوبيات، في تعزيز دعايتها السياسية الخارجية وإظهار ورقة توتٍ إيجابيةٍ جزئيةٍ تستر فيها عوراتٌ عدة في ممارساتها غير الديمقراطية وفي انتشار الفساد المؤسّسي بين جنباتها. كذلك فإن المستبدّ ينطلق من نظرية غير علمية ولكنها سائدة في المجال البصري على الأقل، التي تقول إن تدعيم عضلات الجسم وتضخيمها وزيادة بروزها تؤدّي حتماً إلى اختلال وظيفة الدماغ أو انتقاصها أو اضمحلالها.
في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية نسبياً، والتي تعتمد مؤشّرات عدة في تطوير برامجها المستقبلية، وخصوصاً في ما يتعلق بالسياسات العامة المرتبطة بالعناية الصحّية المؤمنة للمواطنين، تشجّع الإدارات المعنية بالتشجيع على ممارسة الرياضات كلها بهدف بناء الإنسان ذي الجسد الصحيح والعقل الفعّال. ومع تطوّر النظام الاقتصادي المهيمن باتجاه تحريرٍ مُطلق وشبه فوضوي، فقد تفتّحت آفاقٌ رأسمالية مُحفّزة للرياضات على أنواعها بأنها مصدر تراكم رأس المال نسبي لمن يمارسها ولمن يستغلها إعلامياً ودعائياً من جهة أخرى، ولمن يُضارب على نتائجها في اقتصاديات المراهنات الرياضية المتنوعة، من جهة ثالثة. أما في ما يتعلق بالرياضات الذهنية، والتي يخشاها المستبدّون كالطاعون، فهي تحظى نسبياً بحرية تسمح لممارسيها من اكتساب مهارات الحوار ومنطق النقاش وآليات النقد.
ظل السعي المحموم لتغييب الانتماء الوطني من ممارسات السلطة السياسية، وتعزيز الانتماء العشائري، الديني، الطائفي أو المناطقي
عربياً، يسود الاهتمام حكومياً وشعبياً بالألعاب الجماعية على حساب الألعاب الفردية، فالتعبير عن الحماسة لفريق مدينة أو قرية، وتشجيع هذا الفريق، يعتمد أساساً على زيادة الشرخ في النسيج الاجتماعي الوطني. الشرخ الذي تسعى له دولة الاستبداد في تطبيق جدّي لقاعدة "فرّق تَسُد"، والتي نُسبَت "ظلماً وبهتاناً" إلى سياسات القوى الخارجية التي مارست احتلالاتها في منطقتنا، في حين أن دول ما بعد الاستعمار العربية، ولا أسميها الوطنية، قد أبدعت في تطبيقها وتجاوزت المعلّم، الاحتلال الخارجي، بأشواط. وفي ظل السعي المحموم لتغييب الانتماء الوطني من ممارسات السلطة السياسية، وتعزيز الانتماء العشائري، الديني، الطائفي أو المناطقي، فقد استُخدِمَت الألعاب الجماعية لإبراز أسوأ ما في المجتمع من أمراض مرتبطة بالانتماءات سابقة الذكر.
وكذلك، تستخدم الدول الألعاب الجماعية في تصفية حساباتها مع دولةٍ جارةٍ تتقاسم معها اللغة والثقافة والجغرافيا، ولكن استبداد كل منهما ينتمي إلى مدرسةٍ مختلفة، فوجب بالتالي مقارعتها. والرياضة سلاحٌ شعبوي قاطع يُتيح استخدامه تحقيق النتائج المرجوّة في تعزيز شقّ الصف العربي. وانطلاقاً من مفهوم الاستخدام الخارجي للرياضة في تصفية الحسابات الإقليمية أو في توجيه الرسائل الدولية، ظهرت، أخيراً، رياضة يمكن اعتبارها فرديةً رغم جماعية المشتركين فيها، وهي رياضة الهرولة السياسية تجاه أنظمةٍ برزت سنوات طويلة في رياضات القتل الجماعي والتشريد والاعتقال والإفساد. ولا تعتمد الهرولة هذه على أية قواعد صحية معروفة لرياضة الهرولة، فما بين المسير العادي والركض السريع، هناك الهرولة التي يُجمع الأطباء على اعتبارها الأفضل لعضلات القلب. ولكنها عندما تتحوّل إلى السياسة، قد تصبح الأسوأ بالنسبة إلى الأخلاق والمبادئ، إن وجدت.
في الذاكرة الجمعية، فعل الهرولة مرتبطٌ بالخدمة العسكرية، حيث كان الضابط يدعونا لأن نهرول باتجاهه، وعند الوصول يأمرنا بالانبطاح.