بين باريس وتل أبيب
اشتعلت المدن الفرنسية والإسرائيلية بمظاهرات عارمة، احتجاجاً على إقرار قوانين يراها المتظاهرون مجحفة. وهي مدّ سن التقاعد في فرنسا، وتعديل قانون القضاء في إسرائيل.
تعود أسباب الاحتجاجات في البلدين إلى سبب واحد، توغل السلطة التنفيذية واعتداؤها على نظيرتيها التشريعية والقضائية، ففي فرنسا أقرّ الرئيس ماكرون قانون مد سن التقاعد، من 62 إلى 64 عاماً، من دون عرضه للتصويت على الجمعية الوطنية (البرلمان)، استناداً إلى مادة في الدستور تتيح للحكومة التصديق على القوانين من دون تصويت، وذلك خوفاً من الفشل في الحصول على موافقة البرلمان. وفي إسرائيل، استعان رئيس الحكومة، نتنياهو، بالبرلمان لتمرير قانون يؤثر على استقلالية القضاء، عن طريق تقييد المراجعة القضائية لتشريعات الكنيست، وسيطرة الحكومة على تعيينات القضاة، وإلغاء تدخّل المحكمة العليا في الأوامر التنفيذية.
أثار تعامل أجهزة الأمن في البلدين مع الاحتجاجات انتقادات محلياً ودولياً، فقد انتشرت فيديوهات للتعامل "العنيف" من الشرطة الإسرائيلية مع المتظاهرين المعارضين للقانون. كما انتقدت مفوّضة حقوق الإنسان في مجلس أوروبا، دنيا مياتوفيتش، ما سمّته "الاستخدام المفرط للقوة" ضدّ المتظاهرين المحتجّين على قانون التقاعد في فرنسا، مطالبة باريس باحترام حقّ التظاهر.
استعان كل من نتنياهو وماكرون بمصطلحاتٍ خادعةٍ لتمرير القانونين، عندما تحدّثا عن "إصلاح القضاء" و"إصلاح نظام التقاعد"
كشف قانون مد سن التقاعد في فرنسا عن فشل كبير في التعامل مع أسباب إقراره، فقد جازف ماكرون بإقرار القانون، وواجه اضطرابات كبيرة بسببه، وبرّره بأنه ضروري "حتى لا تفلس البلاد"، بسبب تقدّم السكان في العمر وزيادة أعداد المتقاعدين من دون وجود عمالة شابة تعوّضهم، رغم أنه كان يمكن الاستعانة بحلّ آخر، وهو تسهيل دخول المهاجرين الأجانب إلى فرنسا وإلحاقهم بسوق العمل لمواجهة ذلك النقص. وكان يمكن أن يستفيد ماكرون من خبرة ألمانيا وكندا في هذا الإطار، فقد حققت كندا أكبر زيادة سكانية بفضل استقبالها أكثر من مليون مهاجر العام الماضي، بهدف تخفيف النقص في العمالة. كما أدخلت ألمانيا تعديلات تسهّل استقبال المهاجرين لسد النقص في سوق العمالة الذي يبلغ أكثر من مليون وظيفة، وسط ترحيب من أصحاب الأعمال هناك، لأنهم يدركون أن البلاد تحتاج بالفعل مهاجرين للحفاظ على نمو الاقتصاد.
استعان كل من نتنياهو وماكرون بمصطلحاتٍ خادعةٍ لتمرير القانونين، عندما تحدّثا عن "إصلاح القضاء" و"إصلاح نظام التقاعد"، وقد وقعت وكالات أنباء دولية ووسائل إعلام عالمية كثيرة في هذا الفخّ، عبر تبنّي المصطلحين عند الحديث عن القانونين، وهو ما يشير إلى أزمةٍ ليست هيّنةً في وسائل الإعلام، وخللٍ في تعاملها مع الأحداث، سواء من ناحية كفاءتها، أو موضوعيتها. لأن كلمة الإصلاح توحي بمعنى إيجابي، وبأن الأوضاع كانت سيئة وتحتاج إلى تطوير. وقد انتبهت وسائل إعلام أخرى إلى ذلك ولم تقع في الفخّ، واستخدمت مصطلحات مثل "تعديل قانون القضاء" و"قانون مدّ سن التقاعد".
تعامل ماكرون ونتنياهو مع الاحتجاجات بأسلوب مشابه لتعامل رؤساء دول العالم الثالث، فقد اتهما المتظاهرين بارتكاب أعمال عنف. وتجاوز نتنياهو حدود المنطق باتهام معارضيه بأنهم متطرّفون، رغم أنه يقود الحكومة الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل! كما قوبلت المظاهرات بعناد من ماكرون ونتنياهو، فلم يُبد الأول أي بادرة تشير إلى احتمال تراجعه. لكن الأخير اضطرّ للتراجع مؤقتاً بعد تصاعد الاحتجاجات إلى درجةٍ جعلت قادة أمنيين وعسكريين يحذّرون من اندلاع حرب أهلية. وإن كان نتنياهو ألمح إلى أنه سيمضي في قوانينه القضائية بعد أن تهدأ الزوبعة الحالية.
وأخيراً، أثبتت الاحتجاجات في فرنسا وإسرائيل، وكذلك تراجع نتنياهو، أن الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير ضرورة لا غنى عنها للمجتمعات، وأن الوعي الشعبي في مراقبة الحكومات والتصدّي لخططها إذا لم تنل رضاها هو مفتاح تقدّم الأمم.