تأجيل مواجهة الأزمات ... وتفكّك المجتمع الإسرائيلي
لا تميل إسرائيل في معالجة قضاياها ومشكلاتها الخارجية إلى تأجيلها، وعادة ما تكون أكثر حرصا على معالجتها، حتى لا تكون مصدر تهديد لها في المنطقة، وهي وإن اضطرّت إلى تأجيل حل مشكلاتها الخارجية أحيانا، فعادة ما يكون ذلك مرتبطا بظروفٍ تفرضها عليها ضرورات السياسة الخارجية، وما قد تلزمها به الولايات المتحدة. أما بالنسبة للمشكلات الداخلية، فكثيرا ما تميل إسرائيل إلى تأجيل حل تلك المشكلات، خوفا من أن تؤدّي الحلول إلى أزمات سياسية واجتماعية أكبر من المشكلة نفسها، لكننا حين نراجع بعض ما أفرزته هذه السياسة، يتبين لنا أن تأجيل الحل كثيرا ما يؤدّي إلى تجاوز مؤقت لهذه التخوّفات، غير أن مآلات التأجيل عادة ما تكشف عن أضرار سياسية واجتماعية خطيرة، لم تكن لتحدُث لو ووجهت هذه المشكلات مبكّرا.
لم يكن من السهل أن يجمع قادة العصابات الصهيونية عند تأسيس دولة الاحتلال على دستور موحّد لها في ظل الاختلافات الفكرية والأيديولوجية الكبيرة التي كانت قائمة بينهم، وكان بن غوريون حينها يتخوّف من أن يؤدّي الاختلاف على بنود دستور موحّد إلى زرع بذور الاختلاف بين قادة الأجنحة العسكرية في ذلك الوقت الحرج، واكتفى هؤلاء القادة حينها بإعلان ما سمّيت "وثيقة الاستقلال" والتي جاءت في 667 كلمة تتضمّن إشارات عامة للمساواة في الحقوق بين جميع رعاياها، بغض النظر عن الدين والعرق، مع تأمين حرية الدين، والتعبير عن الرأي، والتعليم والثقافة، ودعوة إلى عرب 48 بالمشاركة في بناء الدولة على أساس المساواة التامة في المواطنة والتمثيل في كلّ مؤسسات الدولة.
تعديل القوانين الأساسية يحتاج أغلبية الحضور من أعضاء الكنيست فحسب، مهما كان عددهم
في ذلك الوقت، لم تكن فكرة القوانين الأساسية قد ظهرت بعد في إسرائيل؛ فأول قانون أساسي كان قانون الكنيست الصادر في فبراير/ شباط 1958، ثم تتابعت القوانين الأساسية. ويمكن القول إن العيب الأكبر للقوانين الأساسية أن مكانتها لا تعادل مكانة الدستور؛ فبينما يحتاج تعديل الدستور لإجراءات معقّدة، فإن تعديل القوانين الأساسية يحتاج أغلبية الحضور من أعضاء الكنيست فحسب، مهما كان عددهم، وهذا أدّى إلى استحداث قوانين أساسية كل فترة أو إلغائها، أو إلى كثرة التعديلات التي أدخلت على القوانين الأساسية الموجودة؛ ففي ندوة كان معهد الحرية والمسؤولية التابع لجامعة رايخمان قد عقدها في يناير/ كانون الثاني 2022 بعنوان "قواعد لعبة الديمقراطية الإسرائيلية" بمشاركة معهد السياسة الإسرائيلية، أجمع المشاركون فيها على أن عدم وجود دستور إسرائيلي أدّى إلى وجود فوضى تشريعية؛ حيث أدخل القادة الإسرائيليون أكثر من 120 تعديلا على القوانين الأساسية، حدثت 19 منها حدثت في الأعوام الستة الأخيرة وحدها، إضافة إلى أنه منذ عام 2013 تم تشريع قوانين أكثر مما جرى تشريعه في الولايات المتحدة عبر تاريخها. ولا يهدّد هذا الوضع الاستقرار التشريعي فحسب، بل يهدّد الديمقراطية نفسها في إسرائيل، مثلما تشعر الغالبية الكاسحة من الإسرائيليين اليوم، بغض النظر عن انتمائهم للموالاة أو المعارضة، فكلا الطرفين يشعر بهذا الخطر من زاويته الخاصة.
وبمراجعة وثيقة الاستقلال التي وعدت بالمساواة التامة بين المواطنين يتبيّن أن ذلك الوعد لم يتحقق منه شيء لفئات كثيرة في المجتمع، وأن هذه الوثيقة، كما يقول الكاتب الإسرائيلي شكيب علي، لم يكن سوى حبر على ورق للتماهي مع قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة، وأن المؤسّسين لم يكن في نيتهم أصلا إعطاء حقوق متساوية لجميع المواطنين؛ إذ يشعر عرب 48 بالتهميش والإهمال، ويعاني اليهود ذوو الأصول الأفريقية من العنصرية، ويشعر المتدينون بالاحتقار من العلمانيين، ويتعرّض اليهود ذوو الأصول الشرقية للاستهزاء والسخرية.
ما يحدث في إسرائيل من تمييز ضد فئاتٍ بعينها ليس حدثا عابرا، بل هو ظاهرة تضرب بعمق في المجتمع الإسرائيلي
وقد انتشر في الأسابيع الثلاثة الماضية، مقطع تمثيلي ساخر لطالبات أحد معاهد القدس التعليمية التابع للتيار الديني القومي، حمل عنوان "لو كان المعهد شرقياً" سخرت فيه الطالبات وإحدى معلماتهن من اليهود ذوي الأصول الشرقية، وأثار عاصفة نقدية في إسرائيل بشأن مدى تغلغل العنصرية بين فئات المجتمع الإسرائيلي، ومدى تعرّض فئات عديدة في المجتمع للاحتقار. وعلى الرغم من انتقاد السياسيين والمسؤولين ما اعتبروها عنصرية بغيضة والدعوة إلى التحقيق مع المسؤولين عنه، فإن ذلك لا يُخفي حقيقة ترسّخ العنصرية في المجتمع الإسرائيلي، وأن كثيرا مما عبر عنه السياسيون من انزعاج لا يعبّر عما يحدث فعليا في إسرائيل. وتعامل كثيرون مع المقطع على أنه مشكلة عابرة، لكن الصحافي الإسرائيلي يتسحاق تسلر في مقال له في يديعوت أحرونوت بعنوان "الجميع هنا عنصريون؛ نحن في حاجة لتنشئة جيل جديد" أبرز حقيقة أن المشكلة ليست في طالبات أعمارهن 17 عاماً، بل هي أكبر كثيراً؛ فتأثير المقطع المصوّر لا يقارَن مطلقاً بتأثير برامج تلفزيونية إسرائيلية ذات تأثير واسع وشهرة كبيرة، بعضها ينتمي إلى ما يُعرف بتلفزيون الواقع كبرنامج "إيرتس نهديرت/ البلد العظيم"، الذي كثيرا ما قدّم اليهود الشرقيين محدودي التفكير، وأصحاب طباع غليظة.
والحقيقة أن ما يحدث في إسرائيل من تمييز ضد فئاتٍ بعينها ليس حدثا عابرا، بل هو ظاهرة تضرب بعمق في المجتمع الإسرائيلي؛ يدلّ على ذلك ما أشار إليه تسلر في مقاله أنه لم يحدث مطلقا أن تولّى أحد الشرقيين رئاسة الحكومة في إسرائيل، كما أنه لا مجال لتجاهل حقيقة أن المحكمة العليا طوال 75 عاما هي عمر الدولة كان أغلب أعضائها من اليهود العلمانيين ذوي الأصول الغربية. ويتساءل تسلر ساخرا: هل من المحتمل أن يكون اليهود الشرقيون، والعرب، والحريديم، والقادمون من إثيوبيا، والذين كانوا يأتون من دول الاتحاد السوفييتي لم يولدوا من أجل القيادة، وليست لديهم قدرات على أن يكونوا قضاة؟
أورث الخوف من كتابة دستور للدولة لئلا يختلف المؤسّسون على طبيعة هويتها - الأجيال التالية مشكلات كبرى
وهكذا، أورث الخوف من كتابة دستور للدولة، لئلا يختلف المؤسّسون على طبيعة هويتها، الأجيال التالية مشكلات كبرى، وكما تقول عضو الكنيست السابقة عن حزب أزرق أبيض، تهيلا فريدمان، "ترك المؤسّسون للأجيال التي جاءت بعدهم كلاما معسولا عن الحرية ومراعاة حقوق الأقليات، لكنهم لم يعرفوا كيف يحققون ذلك، وكان موقفهم الدائم تأجيل الأزمة من خلال عبارات من نوعية: فيما بعد. وبعد أن تقوم الدولة، وبعد أن نستقبل المهاجرين، وبعد الحصول على الأمن. وفي غضون ذلك، كنا نكتفي بترقيع الوضع مع كل أزمة، حتى وصلنا إلى وضع قائم مليء بالثقوب".
ولم تكن مسألة الدستور وحدَها التي جرى تأجيلها؛ فهناك قضايا أخرى ذات صلةٍ بمسألة الدستور تأجل حلها أيضا، كالفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتغوّل السلطة القضائية على السلطتين التنفيذية والتشريعية... هذه القضايا وغيرها نتج عن تأجيلها فتح أبواب الفساد، وتعطيل مشروعات الحكومة، وعرقلة إقرار ميزانية الدولة أحيانا، وإهدار للمال العام، وكثرة التعديلات التشريعية سواء على القوانين الأساسية أو غيرها، وتلاعب بالقرار السياسي، ومحاولة تحقيق مكاسب فئوية على حساب الصالح العام.. وغير ذلك من المشكلات.
وتبقى هنا مسألتان، أولاهما أن الأزمة الحالية التي تشهدها إسرائيل، وأغلب الأزمات السابقة هي نتاج ذلك التأجيل الذي بدأ منذ التأسيس، وكانت باكورته عدم وضع دستور للدولة، والذي أعقبه تأجيلٌ بعد تأجيل، وأدّى إلى مشكلات سياسية واجتماعية هائلة تظهرها المقالات الصحافية، وتعليقات الإسرائيليين على صفحات التواصل الاجتماعي. وتتعلق المسألة الأخرى بمدى قدرة السياسيين الحاليين في إسرائيل على تجاوز الخلافات القائمة بينهم ومعالجة القضايا المؤجّلة، وأولها وضع دستور للدولة. وإذا كانت المسألة الأولى مؤكّدة فالأخرى تبقى محلّ شك قد يصل إلى درجة المستحيل.