"تاجر الشنطة" توني بلير
زار رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، إسرائيل الأسبوع الماضي، وتكشف القناة 12 الإسرائيلية أن الزيارة كانت سرّية، والتقى خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وعضو مجلس الحرب، بيني غانتس، وأن البحث تركّز على دور محتمل له (بلير) في ملفّ ما يسمّى التهجير الطوعي للغزّيين إلى دول غربية على الأرجح.
لا يُعرف ذلك السحر الذي يتمتّع به بلير، حتى نعثر عليه في أزماتٍ دولية كثيرة، أو تفسير غَرَم كثيرين من قادة العالم به، لكن ما يُعرف أن للرجل معهداً اسمُه "معهد التغيير العالمي"، ويفترض أن يكون غير ربحي. وقد أسسه عام 2016، وهو يقدّم الاستشارات والدراسات للدول والمؤسّسات الكبرى. والمدهش أن عمل هذا المعهد يتوسّع باضطراد، ولديه حالياً نحو 800 موظّف، بعضُهم رفيع المستوى مثل رئيسة وزراء فنلندا السابقة، سانا مارين، في العالم، كما أن من زبائنه دولاً ثرية، مثل السعودية والإمارات وكازاخستان، من ضمن نحو 40 دولة ينشط فيها موظّفو بلير، ويقدّمون الاستشارات لأنظمة لا يُعرف عن كثيرها توجّهٌ ديمقراطي أو تسامحٌ مع المعارضة الداخلية، قدر ما يُعرف عنها سعيها إلى تقديم الرشا من تحت الطاولة للدول العظمى، وتحديداً الولايات المتحدة، لتغضّ النظر عن انتهاكاتها، ويُعتقد أن بلير ومعهده جاهزان لمثل هذا الغرض.
ليس عمل بلير بريئاً على الإطلاق والحال هذه، وقد تُفسّر جزءاً من الأجندات الخفية لمعهده معرفة كبار داعميه، لا كبار زبائنه فقط، ومن هؤلاء ليونارد بلافاتنيك، وهو ملياردير يهودي أوكراني (سابق) عُرف عنه تعلّقه بإسرائيل، ودعمُه السخي جداً لعقد شراكاتٍ بين العلماء الإسرائيليين والجامعات المرموقة في العالم، ومن بينها كامبريدج البريطانية، لتطوير القدرات العلمية للعلماء الشبّان في إسرائيل من خلال ربط أبحاثهم بالأكاديميات الكبرى. كما أن من مموّلي معهد بلير الملياردير الأميركي لاري إليسون (شركة أوراكل)، وهو يدعم بلير بسخاء وفق التقارير، ومعروفٌ عنه دعمُه المتواصل إسرائيل، وبعض هذا الدعم يقدّم للجيش الإسرائيلي نفسه، وقد تبرّع بنحو 16 مليون دولار لهذا الجيش عام 2017، والحال هذه، يتحرّك بلير ضمن منظومة أوسع، لا يتحكّم بها وحده، وتسعى إلى إحداث تغيير مُوَجّه، يخدم غرضاً ويسعى إلى تحقيق أهداف استراتيجية لخدمة المموّلين ومن يقف وراءهم، أو يسعون إلى إرضائه، وليست إسرائيل بعيدة عن هذه اللعبة المعقّدة.
هل ذهب بلير إلى إسرائيل تلبية لدعوة منها أم أنه بادَر وسعى؟ أياً تكن الإجابة، فإن بلير، سواء تطوّع أو كُلف، هو رجل المموّلين الذين هرعوا، منذ بداية حرب الإبادة على قطاع غزّة، إلى إنقاذ إسرائيل ونجدتها بكل ما يملكون من وسائل أو نفوذ، ومن بين هؤلاء مموّلو بلير وبعض كبار زبائنه، ما يعني أن محاولته نفي ما ذاع بأنه كُلّف بإدارة ملفّ ما يسمّى التهجير الطوعي للغزّيين بلا طائل، ذلك أن مهمّة قذرة كهذه، وهي جريمة حرب بالمناسبة، لأنها تندرج فعلياً في سياق التهجير القسري، لا الطوعي، لا يُعلَن عنها ولا يفاخَر بها، وتتطلّب كتماناً ودبلوماسية سرّية جداً لإنفاذها.
طبعاً، لا حاجة للتأكيد أن مسعى كهذا مصيرُه الفشل، فالغزّيون الذين نزحوا مُجبَرين إلى الجنوب من بيوتهم في مدن شمال قطاع غزّة وبلداته سرعان ما سعوا إلى العودة، وأفلح بعضُهم، ولم يندفعوا نحو معبر رفح مع مصر للخروج من ديارهم، وهذا يؤكّد أن مسعى بلير المحتمل، وعمل إسرائيل الحثيث لتهجير الغزّيين تحت أي مسمّى، مصيرُهما الفشل الذريع، فالمسألة بالنسبة للغزّيين ليست زبائنية قائمة على تحقيق ربح صغير في منفى بعيد، يأمنون فيه على أرواحهم وأولادهم، بل قضية وجودية يتشكّل من خلالها معنى حياتهم كلها، حتى لو كان الثمن هو الاستشهاد وفقدان البيت والأولاد والأحفاد، وهو ما لا يفهمُه أي تاجر "شنطة" يتجوّل في دمار غزّة عارضاً على أهلها، وليس سكّانها بالمناسبة، أوطاناً مؤقتة وبطاقات تموين وأوراقاً ثبوتية ورواتب شهرية مقابل ترك وطنهم، حيث قبور أحبابهم ومساقط رؤوس أولادهم. ومن الجيّد أن تنتفض السلطة الفلسطينية على غير عادتها على مهمّة بلير المُفترضة، وتعلن أنه غير مرغوبٍ فيه في مناطقها، فمهمّة الرجل الفاشلة قبل أن تبدأ يجب أن تُدفَن في مهدها، ولعل بعض الدول العربية، وهي من زبائنه، تفعل من أجل التاريخ أو ما تبقّى من سمعتها على الأقل.