"تجوّع" يا سمك
تستحضر الاشتباكات التي جرت أخيرا بين حركة طالبان وإيران تاريخاً طويلاً من العلاقات المتوتّرة بين الجانبين، لكنها غير مرشّحة للتصاعد، رغم ارتفاع حدّة الخطاب والتهديدات التي تُطلق من هنا وهناك. ومن المفارقات الكبرى أن يتشابه خطاب الجانبين إنْ لم يتطابقا، ما يعكس البنية الواحدة التي يصدُر عنها ويتحرّك فيها هذا الخطاب، فكلا النظامين يستند إلى الدين ورجاله، فبينما هناك مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران هناك أمير مؤمنين في الإمارة الأفغانية، وكما أن هناك "مجمع تشخيص مصلحة النظام" في تراتبية السلطات الإيرانية هناك مجلس شورى لدى "طالبان"، وكل منهما معمّم ويعادي الولايات المتحدة.
قبل أيام قليلة، وفي معرض تعليقه على الاشتباكات، وسببها خلافٌ ليس جديداً على توزيع الحصص المائية من نهر هلمند، نسبت وكالات الأنباء إلى أحد قادة "طالبان" قوله إن مجاهدي الإمارة الإسلامية سيحتلون إيران خلال 24 ساعة إذا سمح شيوخ الحركة لهم بذلك. ولا تذكّر تصريحات رغائبية كهذه إلا بتلك التي تصدُر بين حين وآخر عن قادة إيرانيين في الحرس الثوري وسواه بأن بلادهم قادرة على مسح إسرائيل أو تدميرها خلال مُدد لا تزيد بل تنقص عن تلك التي حددها القائد الطالباني لاحتلال إيران. ومن المؤسف أن خطاباً رغائبياً تهويلياً كهذا يجد صدىً مدوياً لدى مناصري الطرفين في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا لدى مؤيدي النفوذ الإيراني في المنطقة، ولدى مناوئيه، فكل منهما يصدّق بل يروّج ويرغب بأن ينفذ الطرف الذي يؤيده تهديداته إما بمحو إسرائيل أو احتلال طهران، رغم أن كلا الجانبين، إيران و"طالبان"، لم تُجرَّبا في حروب خارج حدودهما، فالحركة تستطيع أن تهزم أعداءها داخل أفغانستان، لكنها لا تستطيع تجاوز عشرات الكيلومترات داخل الأراضي الإيرانية من دون غطاء جوي تفتقر إليه اليوم وغداً. أما إيران التي لا تنافسها إلا كوريا الشمالية في إجراء التدريبات العسكرية، فإنها لم تحارب فعلياً بعد حربها مع العراق، ولم تخرُج منتصرةً آنذاك، وهي تستطيع توظيف أدواتها في المنطقة فتُزعح وتُربك، وربما تغلّب حظوظ الطرف الذي تسلّحه وتدعمه داخل هذه الدولة أو تلك في السلطة والنفوذ، ولكنها نفسها، بقواتها النظامية وحرسها الثوري، لم تُجرَّب في حرب حقيقية منذ نحو أربعة عقود، ما يجعل من فكرة وعيدها بمحو إسرائيل في 24 ساعة أو في مدّة أقلّ ضرباً من التهويل شبيهاً بخطاب القائد الطالباني الذي هدّد باحتلالها في يوم واحد.
حاصرت حركة طالبان عام 1998 القنصلية الإيرانية في مزار شريف (شمال أفغانستان)، وقتلت دبلوماسيين فيها، لكن طهران لم تبادر إلى استخدام القوة لفكّ الحصار عن قنصليتها ودبلوماسييها، واعتصمت بما تسميه دوائر صنع القرار الإيراني الصبر الاستراتيجي. ولم يكن يخلو يوم من دون أن يخرج وزير الخارجية آنذاك كمال خرّازي بتصريح يأمل فيه بحل الأزمة ويلمح بالتهديد، من دون أن يصرح به، رغم أن إيران قرّرت حشد ما قدّرته مصادر في حينه مائة ألف جندي للتدخّل العسكري، إلا أن مرشد الجمهورية علي خامنئي رفض، في آخر المطاف، توصية المجلس الأعلى للأمن القومي بشنّ حربٍ تْنهي حركة طالبان، فحروب إيران الحقيقية ما زالت بالوكالة، وحروب "طالبان"، إذا استثنينا حروبها ضد الأطراف الداخلية، تقوم على الصمود وعدم تمكين "العدوّ الخارجي" من تحقيق أهدافه كلها. أما أنها انتصرت على الولايات المتحدة فلأن الأخيرة انسحبت بعدما اكتشفت إدارة جو بايدن، ومن قبلها إدارة باراك أوباما، أنها لا تفعل شيئاً في تلك البلاد منذ سنوات سوى الإنفاق على حكومة أشرف غني الفاسدة التي لم تصمُد أمام زحف "طالبان"، وفرّت من دون أن تخوض اشتباكاً حقيقياً واحداً للدفاع عن نفسها على الأقل. والحال هذه، ما أُطلق أو يمكن أن يُطلق من تهديدات من طهران أو كابول بخصوص حصص المياه من نهر هلمند لا معنى لها، فالخلاف فني محض وفي طريقه إلى الحل، فلا "طالبان" تنكر حق إيران في المياه وفق ما حدّده اتفاق عام 1973، ولا طهران تريد أكثر، ولكنها البنية الواحدة التي لا يستقيم تماسُكها إلا بمزيد من الكلام وأوهام القوة وحيازتها.