تحديقة تختزل فظائع الاعتقال الصهيوني
شاهد العالم صورة الأسير الفلسطيني بدر دحلان (30 عاماً) بعينيه المفتوحتين على وسعهما، المختزنتين صدمةً وخَدَراً وألماً، المحملقتين فينا إنّما بنظرة صوب البعيد، نحو الفراغ، أُطلق عليها بين الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام تسمية "تحديقة الألفي ياردة"، استناداً إلى صور فوتوغرافية لجنودٍ من ساحات الحرب والموت مصدومين من أهوال ما رأوا وما اختبروا في المعارك، فظهروا مبحلقين وفي وضعياتٍ من الجمود وغياب التعبير، مثل الكائنات المصبّرة. أضحت صور لتوم ليا ولدون ماكولين مرجعاً نفسيّاً وعلميّاً لهذه "التحديقة" المثقلة بالصدمة والخوف والذكريات المرعبة من ميدان المعارك. بيد أنّ التحديقة هذه التي تُدرج في اضطرابات ما بعد الصدمة ليست وقفاً على الحرب وميادينها، بل يمكن أن تكون نتيجة تعذيب في السجون والمعتقلات، ويمكن أن تصيب أيضاً الأطفال، مثلما هي الحال في غزّة، حيث مئات ألوف الأطفال المصابين بـ"صدمة القذيفة" التي تُفضي بهم إلى أقصى درجات الذعر وعدم استيعاب ما يحصل، فنبصر في عيونهم ذاك "الانفصال" نفسه، والجمود، والرعب الساحق. وثّقت ملايين الصور والأشرطة للإبادة ولمآسي أطفال غزّة، شهداء وجرحى مدمّمين ومبتوري الأطراف، وسجّلت الخوف الشديد الكامن في نظراتهم الحيرى، البريئة، التي تسأل، في ما تسأل، عن الحدّ اللامعقول الذي يمكن أن تدركه الوحشية الصهيونية، وعن فداحة الظلم والقسوة في هذا العالم الذي يحيون فيه ويقضون أطهاراً أنقياء.
كأنّ الإبادة لا تروي وحدها عطش الصهيونيّ المتوحّش إلى الدم الفلسطيني، ولا تُشبع روحه الانتقامية المستمرّة، فأنشأ عالماً موازياً لممارسة وحشيته وبهيميّته، هو عالم المعتقلات، حيث التفنّن بمختلف أنواع التعذيب، وما دعاه رجل القانون نزار أيوب بالانتقام الممنهج في دراسته التي أعدّها للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن سياسة الاعتقال في السجون الإسرائيلية منذ "طوفان الأقصى"، فحتى 22 من إبريل/ نيسان الفائت، تاريخ نشر الدراسة، أظهرت المعطيات الرسمية التي نشرتها مصلحة السجون الإسرائيلية في نهاية فبراير/ شباط الماضي: 9312 أسيراً أمنياً في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، ومنذ مطلع إبريل/ نيسان، تحتجز "إسرائيل" 2071 أسيراً محكوماً و2731 أسيراً موقوفاً و3661 معتقلاً إدارياً و849 ممن تصنّفهم "مقاتلين غير شرعيين". وتفيد الدلائل كلّها بأنّ أوضاع الأسرى والمعتقلين قد تدهورت على نحو مريع منذ اندلاع الحرب الانتقامية على قطاع غزّة، إذ يُجبرون على النوم أرضاً، وعلى البقاء بالملابس أسابيع طويلة، وتُقطع عنهم الكهرباء، فيتناولون وجباتهم في الظلام، ويُمنعون من الخروج إلى باحة السجن، ويُضربون حتى الموت أحياناً كما حصل في سجن (أو معتقل) كتسيعوت في النقب، حيث قُتل معتقل فلسطيني شاب في الثامنة والثلاثين من جرّاء تعرّضه للضرب المبرّح. وتظهر علامات التعذيب على المعتقلين ويُحرمون من العلاج، ويوضعون في العزل الانفرادي، يجوّعون ويعطّشون. وأدلت عشرات النساء بعد الإفراج عنهن بشهادات مرعبة عمّا تعرّضن له من تحرّش وإذلال وحرمان وتفتيش وهنّ عاريات، إلى ما هنالك من صنوف الإهانة.
غادر بدر دحلان، أبو الطفلة الوحيدة، المعتقل، لكنّ روحه لا تزال فيه هناك
إذا كانت الشهادات الفلسطينية عرضةً للنفي من الصهاينة الكاذبين، فإنّ صور وشهادات وسائل إعلامية عالمية قريبة من الصهاينة، بل مؤيّدة لهم، مثل "سي أن أن" الأميركية، من غير السهل على الإسرائيليّ نفيها أو تكذيبها، فما كشفته قبل مدة قصيرة عن حالات تعذيب لأسرى قطاع غزّة في معتقلات سرّية ليس إلّا جزءاً بسيطاً من الفظائع المرتكبة بحقّ الأسرى. كشف هذا التقرير للشبكة الأميركية التعذيب الفظيع الذي يمارسه جيش الاحتلال والسادية التي لا يستوعبها عقل كائن بشريّ، كحشر مئات الرجال معصوبي الأعين ومنعهم من الكلام أو الحركة، وبتر أطباء المعتقل أحياناً أطراف السجناء بسبب طول مدة وضع القيود في معاصمهم وامتلاء هواء المكان بروائح الجروح المهملة المتروكة لتتعفّن! استناداً إلى شهادات العائدين من معتقل سديه تيمان في النقب وبعض المؤسّسات الحقوقية، فإنه يفوق معتقلي أبو غريب وغوانتانامو في وحشية التعذيب، حتى إنّ 36 أسيراً استشهدوا فيه، ووُصف بـ"الثقب الأسود الذي يبتلع البشر". وفي الكيان الصهيوني نفسه، علت أصوات صحافية وسياسية وقضائية مطالبةً بالتحقيق في ما يجري هناك، وألقت صحيفة هآرتس الضوء على ما أسمته "المسلخ"، ونشرت رسالة لطبيب المعتقل توثق لظروف المعتقلين الذين يُجبرون على استخدام الحفّاضات، وينامون على الأرض من دون غطاء ومقيّدي الأيدي، ولا تفكّ قيودهم إلّا مرة واحدة ليستحمّوا في دقيقة واحدة فقط، يُعاقبون بشدّة إذا تجاوزوها، ويُرغمون على البقاء 50 يوماً بالملابس نفسها... فما يحصل في هذا المعتقل يفوق أيّ مخيلة.
شهد بدر دحلان مثل هذا وأكثر منه، فأصابته تلك التحديقة العصبيّة الانفصالية المخدِّرة لتعابير الوجه والعينين. إنّه الرعب بعينه والفظاعة بعينها ما أبصر بدر واختبر، ليخرُج من أسره بهذه الوضعية المؤلمة، له وللناظرين إلى وجهه وغُربة عينيه وجحوظهما المعبّر عن رضّة لا تمحى وعذاب لا ينسى. غادر بدر، أبو الطفلة الوحيدة، المعتقل، لكنّ روحه لا تزال هناك، حيث إخوته وأهل بلده، وحيث الألم المستمرّ الذي ينتظر موتاً ... أو حريةً وخلاصاً.