تحولات أوروبية كاشفة
منذ ما يقرب من نصف قرن، تقتات السياسة الأوروبية على خبز "الخطر الإسلامي". وخلال هذه العقود، امتلأت جعبة الإعلاميين وغلاة اليمين الشعبوي بكثير من السيناريوهات والأكاذيب والصور النمطية. وخلال العقدين اللذين مرّا من القرن العشرين، كان هناك صوت أوروبي "خافت" يتحدّث عن تأثيرات إيجابية على أوروبا مصدرها العلاقة بين أوروبا والإسلام، سواءٌ كان موصوفًا بـ "الخطر" أو "التحدّي". وبتعبير آخر، كان هناك من يستدعي "منطوق" نظرية التحدّي والاستجابة لفيلسوف الحضارة الشهير، أرنولد توينبي. واعتبر هؤلاء أن "الإسلام" لعب دورًا (غير مقصود) في إعادة الاعتبار للدين في أوروبا، على نحوٍ لم يحدُث منذ الحرب العالمية الثانية.
وخلال الأزمة الأوكرانية، التحدّي المغاير، تغيرت لغة الخطاب الأوروبي تغيرًا كبيرًا لتشهد وحدةً و"حِدًّة" لا نظير لها منذ عقود طويلة. وعبر بعض الساسيين الأوروبيين عن أن الخطر الروسي على أمن شرق أوروبا كله كان هو الآخر تأكيدًا لصحة نظرية المثير والاستجابة، فالخطر ساهم في ترميم غير قليل من تصدّعات البيت الأوروبي، وخصوصا لجهة خلافٍ قديمٍ بشأن مصادر التهديد الرئيسة لأمن القارّة، واليوم تؤكّد أوروبا، كما لم يحدث من قبل، استعدادها للتصعيد في مواجهة الخطر الروسي، ووحدتها في القناعة بأن المصدر الرئيس للخطر على أمن قارّتهم يأتي من الشرق.
لغة أوروبا، في الشكل والمضمون، صدى للصوت الأميركي
لغة أوروبا، في الشكل والمضمون، صدى للصوت الأميركي. وبالتالي، هذه عودة إلى "بيت الطاعة الأميركي"، تطوي، ولو إلى حين، صفحة الحديث عن أوروبا "الأوروبية"، وعن مشاريع دفاع أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة أو ... وأوروبا التي لم تستطع فرنسا أن تقودها باتجاه أن تكون (صراحةً أو ضمنًا) تحالفًا ضد خطر في الداخل، يمثله مسلمو أوروبا، أو رديف لهم يمكن أن يأتي من الجنوب، اصطفّت سريعًا جدًا أمام "الخطر الحقيقي" الذي تمثله روسيا على الأمن والقيم والنظام السياسي، بينما الخطر الوهمي الذي جرى تضخيمه خلال ما يقرب من نصف قرن، عبر كم كبير جدًا من النتاج المرئي والمقروء، بقي في حجمه الحقيقي.
وخلال أسابيع، كشفت ماكينة السياسة الأوروبية أن مصدر الخطر هو (في المقام الأول) ما يتسق مع رؤية الولايات المتحدة ودول شمال أوروبا، وليس ما حاولت قوى اليمين الشعبوي، مستقويةً بفرنسا، أن تشيعه في الفضاء العام في أوروبا خلال ما يقرب من عقدين. وأحد الأشياء الملهمة في هذه التحولات التي تسبب فيها "التحدّي الروسي" أن الجلبة التي يشهدها شرق المتوسط منذ سنوات لم تتجاوز تأثيراتها في أوروبا دوائر محددة وعواصم محدودة العدد سارت بخطى متردّدة في طريق بناء صورة لشرق المتوسط وجنوبه، كما لو كان "القمقم" الذي سيخرج منه "مارد البرابرة" مهددًا مهد التنوير!
ظواهر المد السياسي اليميني تظل، على الرغم من ذلك، رقمًا مهمًا في خريطة الراهن السياسي الأوروبي
وفي خطوة مهمة أيضًا، قرّرت فرنسا تغليب علاقتها مع الولايات المتحدة على مصالحها الكبيرة مع الصين (بعض عواصم عربية تدعم إبادة الأويغور) تبنّت الجمعية الوطنية الفرنسية قرارًا غير ملزم يندّد بإبادة أقلية الأويغور المسلمة. وعلى الرغم من صمت حلفاء فرنسا في العالم العربي، فضلًا عن النخب العربية المتفرنسة التي لا يجرؤ على اتخاذ موقف إدانةٍ مماثل، إلا أن الخطوة صادمة لهذه الأطراف جميعًا، وهم لم يتورّعوا عن الدفاع عن أن ما يحدث لأقلية الأويغور "شأن داخلي"!
والنخب الرسمية الأوروبية (والأطلسية) التي يعكس خطابها التحولات التي تشهدها أوروبا تكشف عن "نواة صلبة" مؤسّسية ما تزال صاحبة التأثير الأكبر في القرار السياسي في قارّة كان الغالب على تصوّرنا عنها، أخيرا، أنها ترتدّ إلى فاشيتها القريبة، وبخاصة بين الحربين العالميتين. وأن ملامح هذا التحول نحو الفاشية يعزّز صراعًا محتملًا مع المسلمين داخل أوروبا وخارجها. لكن ظواهر المد السياسي اليميني تظل، على الرغم من ذلك، رقمًا مهمًا في خريطة الراهن السياسي الأوروبي، لكنه مدٌّ لم يقتلع جذور البناء الأوروبي الذي نشأ، من الناحية التاريخية، استجابة لتحدّي الشيوعية، وأعاده الخطر الروسي إلى مسار سنوات النشأة.