تحوّلات سياسية دولية إقليمية نوعية... نتائج أم مقدّمات؟
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
انضمام السويد الوشيك إلى حلف الناتو، وقبله انضمام فنلندا، من بين التحولات النوعية في السياسات الدولية التي ستكون لها انعكاسات على واقعنا الإقليمي، فمسألة الحياد بالنسبة إلى البلدين كانت تعدّ من المقدسات التي لا تجوز مناقشتها، أو التشكيك فيها؛ وذلك نتيجة عقود من الصراعات والحروب والاحتلالات قبل نحو مائتي عام، خسرت السويد في أثنائها موقعها قوة عظمى في شمال غرب أوروبا، وخضعت فنلندا لاحتلال روسي استمرّ إلى الثورة الشيوعية في روسيا عام 1917. وتجدّدت المرارة الفنلندية مع الروس في عهد ستالين في أثناء الحرب العالمية الثانية.
وقد حرصت السويد على استقلاليتها وحيادها في أصعب المراحل في أثناء الحرب الباردة؛ ولعلّ من المناسب أن يُشار هنا إلى مظاهرات استوكهولم المندّدة بالحرب الأميركية في فيتنام (1955-1973)، وهي المظاهرات التي كان يتصدّرها أولف بالمه (1927- 1986)، رئيس وزراء السويد في ذلك الحين (اغتيل في أثناء خروجه من السينما مع زوجته، وتوجّههما إلى منزلهما سيرا على الأقدام من دون أي حراسة)؛ هذا في وقت كان بالمه يوجّه أشدّ الانتقادات إلى الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي. ولكن أن يصل الأمر بحزب أولف بالمه نفسه، الديمقراطي الاشتراكي، ليتقدّم بطلب عضوية "الناتو" إلى جانب أولف كريسترسون، زعيم المعارضة اليمينية في ذلك الحين، رئيس الوزارء السويدي الحالي، غداة الغزو الروسي أوكرانيا الذي كان في 24 فبراير/ شباط 2022؛ فهذا فحواه حدوث تحوّل نوعي غير مسبوق في السياسة السويدية على المستويين، الداخلي والخارجي؛ وهو تحوّل لم يقتصر على السويد، بل شمل معظم دول الاتحاد الأوروربي، الغربية منها والشرقية. وكان ذلك بعد أن تيقّنت هذه الدول، بناء على تجاربها والمعطيات القائمة راهناً، ودراستها الاحتمالات المستقبلية، من وجود شراهية مفتوحة واضحة، ونزوع أكيد لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التمدّد شرقاً وغرباً. ولتسويغ هذا الأمر، بل وإضفاء المشروعية عليه، اعتمدت مجموعة القرار المصغّرة المقرّبة من بوتين الأيديولوجية الأوراسية، وهي التي تُطرح بوصفها القادرة على تجاوز مثالب سائر الأيديولوجيات التي سبقتها.
بوتين لم، ولن، يعترف بالتحوّلات الجيوسياسية التي ترتبت على انهيار الاتحاد السوفييتي
وكان من اللافت مراهنة بوتين على الأحزاب اليمينية العنصرية المتشدّدة في الدول الأوروبية، التي كانت تركّز في حملاتها الانتخابية على المخاطر الناجمة عن استقبال اللاجئين من الدول المسلمة بصورة خاصة، والتلويح بالمخاطر التي يشكّلها هؤلاء على القيم والهوية والمصالح الأوروربية. وقد استطاعت جملة من الأحزاب العنصرية المتشدّدة الوصول إلى الحكم، خصوصاً في دول أوروبا الشرقية؛ كما تمكّنت من الوصول إلى الحكم أو شاركت فيه، أو كانت، وما زالت، قريبة من الوصول إليه في جملة من دول أوروبا الغربية، ويشار هنا، على سبيل المثال، إلى كل من إيطاليا وفرنسا والسويد وهولندا.
ولكن الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، وقبل ذلك لجورجيا عام 2008، ولأوكرانيا عام 2014، والتهديدات الروسية المستمرّة لأعضاء رابطة الدول المستقلة التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت قياداتها جزءاً من الحزب الشيوعي السوفييتي، ومتداخلة عضوياً مع الأجهزة الأمنية السوفييتية؛ وأكد ذلك كله وغيره أن بوتين لم، ولن، يعترف بالتحوّلات الجيوسياسية التي ترتبت على انهيار الاتحاد السوفييتي، بل سيسعى، إن تمكّن، لاستعادة ما يعتقد أن روسيا قد خسرته، خصوصا في منطقة البلطيق، ويعمل على قضم المزيد، إن أمكن، في جواره الإقليمي، وليس سرّاً أن الخطر الروسي الداهم يهدّد في هذا المجال كلا من السويد وفنلندا في المقام الأول.
أحلام بوتين لا تقتصر على الرغبة في التوسّع غرباً نحو أوروبا، بل تشمل أيضاً النزوع القديم الجديد في التوسع شرقاً وجنوباً
ويبدو أن أحلام بوتين لا تقتصر على الرغبة في التوسّع غرباً نحو أوروبا، بل تشمل أيضاً النزوع القديم الجديد في التوسع شرقاً وجنوباً عبر التنسق مع الحلفاء الإقليميين في كوريا الشمالية ومع الصين والإيرانيين، ومحاولة استمالة تركيا عبر العزف على وتر المصالح الاقتصادية، والوعود المعسولة بخصوص جعل تركيا منصّة لتجارة النفط والغاز والحبوب. وكانت لافتةً العرقلة التركية المجرية لعملية انضمام السويد إلى "الناتو" رسمياً، الأمر الذي كان يعد بالنسبة إلى الأخير، وعلى لسان رئيسه ينس ستولتنبرغ والمسؤولين الأميركان المعنيين بهذا الملف، في غاية الأهمية، لكونه يضمن وجود خطوط الإمداد الخلفية على مقربة جغرافية من الأراضي الروسية، ويوفر، في الوقت ذاته، الحماية الأطلسية لدول البلطيق وبولونيا وفنلندا أو حتى أوكرانيا نفسها.
ولا تقتصر أهمية موقع السويد على الناحية الدفاعية بالنسبة إلى الحلف، وتأمين خطوط الإمداد، بل يوفر هذا الموقع لحلف الناتو، وللقوات الأميركية تحديداً، فرصة التمركز في جزيرة غوتلاند التي لا تبتعد عن مدينة كالينينغراد (ولد وعاش وتوفي فيها الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط 1724-1804) على الشاطىء الشرقي لبحر البلطيق، (مركز الأسطول الروسي الخاص ببحر البلطيق)، سوى 250 كم. كما سيستفيد "الناتو" من أحدث التنقيات السويدية في ميدان الاتصالات وصناعة الأسلحة، والقطع الخاصة بالطائرات الحربية والآليات العسكرية.
خشية حقيقية من أن بوتين، في حال انتصاره في أوكرانيا، سيستمر في غزواته الأوروبية جنوباً وغرباً، وبتشجيع من حلفائه
وبالتزامن مع هذه التطوّرات والمتغيرات الخاصة بالتحدّيات والمخاطر والسياسات الدفاعية، يُلاحظ وجود تراجع ملحوظ في شعبية الأحزاب اليمينية المتطرّفة، الأمر الذي يمكن تفسيره بعوامل عدّة، في مقدّمتها أن الأحزاب الأخرى اليمينية، وحتى أحزاب الوسط، قد تبنّت المادّة الدعائية التي كانت تستخدمها الأحزاب اليمينية المتطرّفة لتسويغ تشدّدها تجاه المهاجرين من جهة الربط بين ارتفاع مستوى الجريمة وتزايد عدد المهاجرين على سبيل المثال. أما اعتماد التلويح بالخطر الإسلامي فقد تراجع كثيراً، كما تراجعت تأثيرات المساعي التي كانت تستهدف المسلمين بصورة عامة ككتلة بشرية متجانسة متماهية مع الجماعات الإسلاموية المتطرّفة، وذلك بعد تبلور ملامح الخطر الوجودي الذي يهدّد الدول الأوروبية في حال تمكّن بوتين من ابتلاع أوكرانيا. واليوم، هناك خشية حقيقية من أن بوتين، في حال انتصاره في أوكرانيا، سيستمر في غزواته الأوروبية جنوباً وغرباً، وبتشجيع من حلفائه الذين يراهنون على أخطاء وشيخوخة، وحتى فساد، الأنظمة الديمقراطية، لا سيّما الهشّة منها.
ولكن التحوّلات النوعية على مستوى الاستراتيجيات والمواقف والأولويات لا تقتصر على القارّة الأوروبية، بل تشمل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والقرن الأفريقي ودول حوض النيل، فكل هذه المناطق وغيرها تواجه تحدّيات كبرى غير معهودة، وتحوّلات نوعية على صعيد التحالفات التي تحركها المصالح الاقتصادية والاصطفافات الجيوسياسية. فدول المنطقة التي عاث فيها النظام الإيراني وأذرعه فساداً وتخريباً تعاني من تمزّقات بنيوية في نسيجها المجتمعي الوطني، كما تعاني من عدم قدرتها على معالجة المشكلات والأزمات بمعزلٍ عن الأدوات الإيرانية التي تمثّل حالة مستجدّة، تتمثل في تعاظم قوة المليشيات التابعة للخارج، وتغوّلها على المؤسّسات الوطنية، حتى أصبحت جزءاً من السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية التي باتت أصلاً شكلية لا حول لها ولا قوة، لا تستطيع أن تحرّك ساكناً، أو تضبط حركة هذا الفصيل المليشياوي أو ذلك من الفصائل التي لا تخضع للمصالح والقوانين والأولويات الوطنية المفروض أن تكون مستنبطة من إرادة المواطنين الأحرار، وبعيداً عن الإملاءات والتدخّلات الأجنبية، ولعل هجمات الأذرع والقوات الإيرانية أخيراً على القواعد الأميركية، والرد الأميركي المقابل، من بين القرائن التي تلقي مزيداً من الضوء على ما آلت إليه أوضاع دول المنطقة ومجتمعاتها نتيجة التدخّلات الإيرانية.
حالة تنافسية لم تعد مخفيةً بين تركيا وإيران، بفعل تمركز الاهتمامات وتعارض المصالح في الساحات نفسها
نواجه هذه الصورة في سورية والعراق ولبنان واليمن، وهناك مخاطر من انتقالها مستقبلاً إلى السودان ودول عربية أخرى. وجدير بالذكر أن الاستراتيجية الإيرانية المتبعة في هذا المجال تستمد نسغها وحيويتها من سياسات الحكومات اليمينية الاسرائيلية وممارساتها، خصوصا الحكومة الحالية التي لا تمتلك أي تصور واقعي ممكن لحل سلمي للقضية الفلسطينية، من شأنه فتح الآفاق أمام سلام عربي إسرائيلي شامل، يساهم في ضمان الأمن والاستقرار والازدهار للمنطقة وشعوبها.
وما ينبغي أن يُضاف هنا وجود حالة تنافسية لم تعد مخفيةً بين تركيا وإيران، بفعل تمركز الاهتمامات وتعارض المصالح في الساحات نفسها، وعلى وجه التحديد في الساحتين العراقية والسورية، اللتين تمثلان بالنسبة إلى تركيا بوابة التواصل مع العالم العربي، خصوصا مع دول الخليج، حيث مصادر الطاقة الهائلة، والأسواق المثالية، وتتسع دائرة التنافس بين الدولتين المذكورتين لتضم مناطق عدة في آسيا الوسطى.
ولعل ما تقدم يفسّر كثيراً من التحرّكات والتحالفات والتكتيكات في الداخل التركي نفسه، وفي الجوار الإقليمي؛ ويمكّننا، في الوقت ذاته، من معرفة دوافع الرئيس التركي أردوغان لبحثه الدائم عن التحالفات الإقليمية، والجهود التي يبذلها للوصول إلى ذلك، خصوصا مع السعودية ومصر، وحتى مع سلطة بشار الأسد وإسرائيل. وضمن هذا السياق، سيكون في مقدورنا فهم الموافقة التركية على انضمام السويد إلى "الناتو". فالأمر، وفق ما يبدو من القرائن والمعطيات، لا يقتصر على ربط تلك الموافقة بصفقة سلاح مع أميركا، بقدر ما يتجاوز إلى ما هو أبعد من ذلك، ويبلغ حد عودة تركيا الحديثة إلى اصطفافها القديم التقليدي مع الدول الغربية، ومع الولايات الأميركية تحديداً، لأن المخاطر المحتملة القادمة من الشرق لا تُطمئن كثيراً، بل تُنذر بكثير من المخاطر المحتملة.
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.