تحوّلات فارقة في وقائع ليبية
شهدت ليبيا، منذ إعلان الجنرال المتقاعد خليفة حفتر ما تسمّى عملية الكرامة سنة 2014، حرْبا ضروسا، دامت سنوات، وامتدّت من شرق البلاد إلى غرْبها، وكان عنوانها المعلن أو المضمر محاولة الرجل القضاء على نواة الدولة المدنية بعد الثورة، وإطاحة حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها دوليا، والاستيلاء على الحكم بقوّة السلاح. وكلّفت تلك الحرب العبثية الليبيين غاليا، فأرْبكت حياتهم المعيشية ودمّرت ممتلكاتهم العامّة والخاصّة، وتوزّع مدنيون كثيرون بين جرحى وقتلى، وبين نازحين ومهجّرين، في الآفاق. وخلال سنة 2020، آلت الأمور نسبيّا إلى الهدوء، وغلب صوت الحوار على أزيز الرصاص. ويمكن الوقوف عند ثلاث محطّات بارزة شهدتها الحالة الليبية خلال العام المنقضي. أولاها الهزيمة المدوية لقوّات حفتر، وثانيتها التوصّل إلى وقف مستدام لإطلاق النار، وثالثتها نجاح البعثة الأممية، بقيادة ستيفاني وليامز، في تحقيق تقدّم معتبر في مستوى مسارات التسوية السلمية الشاملة للأزمة الليبية.
بعد سيطرته بقوّة السلاح على مدينتي بنغازي ودرنة في الشرق الليبي وعلى الهلال النفطي، وتمدّده جنوبا نحو مدينة سبها، أعلن خليفة حفتر ما تسمّى بعملية "الفتح المبين" (4/4/2019)، وأذن بمقتضاها للكتائب المسلّحة التابعة له بالتوجّه نحو المنطقة الغربية واقتحام مدينة طرابلس باعتبارها عاصمة البلاد، ومركز الثقل السيادي والإداري والمؤسّسي، وتضمّ زهاء ثلثي سكّان ليبيا. وكان ذلك أيّاما قليلة قبل المؤتمر الليبي الجامع الذي كان مقررا عقده في مدينة غدامس برعاية الأمم المتحدة لحلّ الأزمة الليبية بطريقة سلمية.
انفضّ من حول حفتر جلّ داعميه الأجانب، بعد أن أصبحوا أكثر قناعة بضرورة وقف إطلاق النار، وحلّ الأزمة الليبية بطريقة سياسية
لكنّ حفتر رأى خلاف ذلك، وشنّ حربا شعواء على سكّان الغرب الليبي، ووعد داعميه في الداخل والخارج بدخول طرابلس في وقت وجيز، لا يتجاوز أيّاما معدودة. وراهن على إمكان تناحر كتائب الثوّار داخل العاصمة، وعلى ارتباك حكومة الوفاق الوطني، بقيادة فائز السرّاج، في إدارة الشأن الداخلي وثورة المواطنين عليها، وظنّ أنّ النّاس سيعترضون قوّاته الغازية بالزهور. لكنّ ذلك كله لم يحصل، فقد اتحد الثوّار في مواجهة قوّات الجنرال المغامر، ونجحت حكومة السرّاج، إلى حدّ معتبر، في تأمين حاجات العاصمة، وتظاهر سكّان طرابلس مرارا ضدّ العدوان الغاشم على مدينتهم، رافعين شعارات "نريد دولة مدنية لا عسكرية"، "المجد لثورة فبراير"، "طرابلس واعرة عليك يا حفتر". وشكّل الجميع كتلة صمّاء ضدّ مشروع حفتر الذي رابطت كتائبه عاما كاملا حول تخوم العاصمة، من دون أن تتمكّن من دخولها.
واستنزفت معركة طرابلس الطويلة قوّات "الفتح المبين"، وأعلن حفتر ساعات صفر كاذبة مرارا لدخول المدينة من دون جدوى. ولم تنفعه في هذا الخصوص الاستعانة بمرتزقة فاغنر الروس والجنجويد السودانيين، والمرتزقة السوريين. لكنّ قوّاته قتلت مئات المدنيين، وشرّدت آلاف النازحين واستهدفت مطار معيتيقة المدني الدولي، ومستشفيات ومدارس وطواقم طبّية. وعلى الرغم من ذلك، ظلّت طرابلس صامدة في معركة ملحمية فريدة، خاضها الثوّار بقيادة قوّات "بركان الغضب" التابعة لحكومة الوفاق الوطني التي نجحت في الذود عن العاصمة، وكبّدت مليشيات حفتر خسائر فادحة في العدد والعُدّة. ومثّل إعلان الحكومة الشرعية عمليّة عاصفة السلام (26/3/2020)، بدعم لوجيستي تركي، نقطة تحوّل في سير المعارك في المنطقة الغربية، فقد انتقلت قوّات بركان الغضب من الدفاع إلى الهجوم، وتمكّنت، في وقت قياسي، من دحر كتائب حفتر من ثماني مدن حيوية في الساحل الغربي، واستعادت مدينة مليتة النفطية، وفتحت الطريق الرابط بين طرابلس والحدود التونسية، وأمّنت سماء العاصمة. وسيطرت القوات الحكومية في وقت لاحق (18/5/2020)، على قاعدة الوطية الاستراتيجية (140 كلم جنوب غرب طرابلس)، وأمّنت سماء العاصمة، واستعادت بَعد ذلك مدينة ترهونة، آخر معاقل حفتر في الغرْب الليبي، ففكّت بذلك الحصار الذي فرضته كتائب اللواء المتقاعد على العاصمة، ودفعتها إلى الهروب بعيدا نحو سرت وقاعدة الجفرة ( 450 كلم شرق طرابلس). ومثلت تلك التطوّرات الميدانية والتحوّلات العسكرية الفارقة هزيمة كُبْرى لخليفة حفتر الذي وجد نفسه معزولا في منطقة الرّجمة (25 كم شرق بنغازي)، بعدما انفضّت من حوله قبائل الشرق الليبي، ورفضت تفويضه قائدا للبلاد، لأنّه زجّ جلّ أبنائها في حرب خاسرة، راحوا ضحيّتها بين قتيل وأسير وجريح، وانفضّ من حوله جلّ داعميه الأجانب، بعد أن أصبحوا أكثر قناعة بضرورة وقف إطلاق النار، وحلّ الأزمة الليبية بطريقة سياسية.
وقف إطلاق النّار المستدام ساهم في حقن دماء الليبيين، ومكّن مهجّرين ونازحين من العودة إلى ديارهم، وأعطى دفعة لمسارات التفاوض
مثّل إصدار رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فائز السرّاج، ورئيس مجلس النوّاب في طُبرق عقيلة صالح، بيانين منفصلين مهمّين (21/8/2020)، تضمّنا دعوة صريحة إلى "الوقف الفوري لإطلاق النّار وكافة العمليات القتالية في كلّ الأراضي الليبية"، نقلة نوعية في مسار بلورة توافق داخلي، لوضع حدّ للحرب الأهلية الليبية. ونصّ البيانان على جعل منطقتي سرت والجفرة منزوعتي السلاح، والمطالبة برحيل المرتزقة والقوّات العسكرية الأجنبية من ليبيا، والدعوة إلى توحيد المؤسسات الوطنية، واستئناف إنتاج النفط وتصديره، وصوغ اتفاق يُفضي إلى تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية. وكان وقف إطلاق النار من الجانبين خُطوة جريئة ومسؤولة، باركتها الأمم المتّحدة، وطلبت من طرفي الصراع الالتزام بها. وهي خطوةٌ جاءت نتيجة تغيّر موازين القُوى ومستجدّات الميدان في غير صالح أتباع خليفة حفتر، ونتيجة دخول الإدارة الأميركية على الخط، وإعلان سفيرها في ليبيا ريتشارد نورلاند دعم بلاده حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها دوليا، ورفضها العدوان على طرابلس، وكذا نتيجة الضغوط الدبلوماسية الناعمة التي مارستها دول وازنة (ألمانيا، بريطانيا، تركيا، إيطاليا)، على طرفي النزاع. والواقع أنّ وقف إطلاق النّار المستدام ساهم في حقن دماء الليبيين، ومكّن عددا من المهجّرين والنازحين من العودة إلى ديارهم، وأعطى دفعة لمسارات التفاوض التي رعَتْها بعثة الأمم المتّحدة لحلّ الأزمة الليبية.
مثل تعيين الدبلوماسية الأميركية ستيفياني ويليامز رئيسة لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (بالإنابة) في مارس/ آذار 2020، خلفا لغسان سلامة، تحوّلا نوعيا في سيرورة الجهود الأممية لفكّ مغالق جلّ القضايا الليبية العالقة، فقد تمكّنت هذه المرأة القيادية، بفضل خبرتها الدبلوماسية المعتبرة، وقدراتها التواصلية الفعّالة، وإتقانها اللغتين العربية والإنكليزية، من مدّ جسور التواصل بين الفرقاء الليبيين، والتقت قادة دول الجوار الليبي، وممثّلين عن الدول العظمى الفاعلين في الساحة الليبية، وأقنعت الجميع بحتميّة استقرار ليبيا خدمة لمصالح الليبيين وشركائهم الاقتصاديين. وشكّلت رأيا عامّا دوليا داعما لمشروع الحلّ السلمي الشامل، ونجحت في تجميع الفاعلين المدنيين والعسكريين من شرق ليبيا وغربها وجنوبها على طاولة الحوار في جولاتٍ تفاوضية مختلفة في طنجة، وجنيف، وبوزنيقة، وتونس.
شهدت سنة 2020 في ليبيا هزيمة حفتر المدوية، وانكسار مشروع عسكرة الدولة، وأدّى ذلك إلى انتقال الليبيين عمليا من لغة البنادق إلى لغة الحوار
وتمكّنت، بالتعاون مع أعضاء البعثة الأممية، من تحقيق اختراقاتٍ مهمّةٍ في مستوى المفاوضات الاقتصادية، والسياسية، والدستورية، والعسكرية ذات الصلة بالوضع في ليبيا، فتمّ التوصّل إلى استئناف إنتاج النفط الليبي وتصديره، وتمّ تحييد المنشآت النفطية عن الصراع السياسي، وضمان استقلالية بنك ليبيا المركزي، وجرى التداول حول الاستفتاء على الدستور، وتقديم مقترحات لكيفية اختيار أعضاء هيئات الحكم التنفيذية، والتنبيه إلى ضرورة رحيل المرتزقة في أقرب وقت ممكن، وفتح الطرُق بين المدن، وضرورة توحيد مجلس النوّاب الليبي. وحصل الاتفاق خلال جولة التفاوض في تونس بين 75 مندوباً ليبياً، يمثّلون مختلف الأطراف المحلّية، على تحديد 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021 موعدا للانتخابات الوطنية في ليبيا. وهذه المنجزات التوافقية مهمّة، تمهّد السبيل لبناء دولة مدنية مستقرّة. وأحرى بالمبعوث الجديد للأمم المتحدة، السلوفاكي يان كوبيش، الذي سيباشر مهامّه في ليبيا مطلع الشهر المقبل (فبراير/ شباط)، البناء عليها، لأجل تحقيق سلام مستدام وشامل في ليبيا.
ختاما، يُمكن القول إنّ سنة 2020 في ليبيا شهدت هزيمة حفتر المدوية، وانكسار مشروع عسكرة الدولة، وأدّى ذلك إلى انتقال الليبيين عمليا من لغة البنادق إلى لغة الحوار لأجل إقامة دولة مدنية/ تقدّمية جديدة، وهو حلم ممكن في حال اتّحد الليبيون، وتجاوزوا خلافاتهم البيْنية المصلحية الضيّقة، وفي حال استمرّ المجتمع الدولي في دعم مشروع السلام والانتقال الديمقراطي والتنمية الشاملة في ليبيا في أفق 2021.