ترامب أكثر رجال الدنيا حظّاً

21 نوفمبر 2024
+ الخط -

هل ترامب أكثر الرجال حظا؟ تساؤل ردّده أميركيون كثُر في أثناء حملته الانتخابية. والأرجح أنه سيعود بقوة بعد فوزه.

تحاول الصحيفة الأميركية، ديموقراتيك أندرْغراوند، الإجابة عنه بعرض مخالفات ترامب القانونية التي لم تمنع الحزب الجمهوري من اختياره مرشّحا عنه، ولا من بقائه حرّاً خارج القضبان، مثل قضايا اغتصاب وتحرّش واحتيال ضريبي وتشهير وإفساد العدالة... باختصار، ولاستكمال برهانها، تتنبأ الصحيفة بفوزه على منافسته كمالا هاريس.

ولكن حظ ترامب ليس ابن لحظة قراره الثاني بخوض الانتخابات الرئاسية. إنما يعود الى يوم ولادته: من أب مقاول في البناء، أعماله تصادف نهاية الحرب العالمية الثانية، فتكون ثروته. من أصول ألمانية، بيضاء شقراء. وخمسة إخوة، هو الثاني في ترتيبه، ولكنه يحتل المرتبة الأولى، لأن أخاه البكر ليس مهتما بالمقاولات. يحبّ هذا الأخ الطيران، فيتخصّص به، ويرحل باكراً، لتكون وراثة أعمال الأب المزدهرة من نصيبه.

ترامب نفسه طويل القامة، وسيم، غاية في الحيوية. زوجاته كلهن من "الجميلات". الواحدة بعد الأخرى، بين عارضات أزياء وملكات جمال. وهو يقول إن النساء ينجذبن إليه تلقائيا، لأنه نجم، والنساء يحببن النجوم. ما يمكّنه من اختيار الغاليات من بينهن، أي أجملهن. كان يمكن بهذه الصفة الأخيرة، أي كونه مزواجا، أن يضرّ بسمعته ويناقض آراءه عن العائلة وقدسيتها وقدسية الحياة؛ وهذه شعاراته في الحملة على هاريس، "التي لم تولد... صاحبة القطط".

ولكنها، أي الصورة السلبية هذه لا تصمُد أمام الثراء والطلّة والعرْق وكوكبة من الجميلات حوله... وكل نقاط الجذب هذه تضع الادّعاءات المحافِظة في جيبها. يمكن أن يتكلم ترامب ساعات عن العائلة، واستقرارها وأهميتها للفرد، ويمكن لجمهوره أن يصيح ويصفّق طربا على أنغامه هذه. من دون أن يلاحظ أن هذا المتكلم اللامع يناقض في حياته الشخصية كل هذه القيم "المقدّسة".

انتقل ترامب من الشاشة، حيث كان يدير برامج مسمّاة "واقع"، الى السياسة

انتقل ترامب من الشاشة، حيث كان يدير برامج مسمّاة "واقع"، الى السياسة. وبسهولة يحسُده عليها من سبق وكان الاستعراض عنده أداة لإقناع الناخبين والمعجبين بفعاليته، فالشاشة أكبر آلة بروباغندا. يتطوّر أداؤها كلما تطورت التكنولوجيا. ومركز هذا التطور، أي "السيليكون فاليه"، انضم إليه، أخيراً، بعدما كان يقترع للحزب الديمقراطي. أي بالمعايير الأميركية، انتقل "معبد التكنولوجيا" هذا من اليسار، الحزب الديمقراطي، إلى اليمين، الجمهوري. ولدواعٍ لم تنكشف بعد أسبابها الجوهرية، الا إذا أخذنا بنظرية الخراب القيمي الهائل الذي ينتظر أميركا في مراحل متقدّمة من تطور هذه التكنولوجيا.

قبل ذلك، أي خلال العهد الأول لترامب (2016 - 2020)، كان إنجازه "الملموس" اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وأبو بكر البغدادي، قائد "داعش". وهو سطّر الأكاذيب بأرقام خيالية. تابعته مواقع أميركية مختلفة، بين جدّية ومازحة، كذبة وراء كذبة. ناهيك عن قوائم من الكلمات والحركات الجسدية، تعبّر عن استباحة النساء بنوع من الابتذال، الذي بلغ درجة الكاريكاتور... ومن إنجازاته أيضاً سلسلة من الإجراءات، تتقدّم بقوة، وتتراجع؛ مثل التأمين الصحي، بناء السور العازل بين أميركا والمكسيك، منع مسلمين من الدخول إلى أميركا، انتشار السلاح، إنكار أزمة المناخ...

وعندما خسر الانتخابات في الدورة الماضية، نظّم ترامب حملة عصيان ضد مبنى الكونغرس. بأسلحة بيضاء مختلفة وأقنعة مخيفة وصيحات تندّد بـ"الغش" في نتائجها. سقط فيها قتلى وجرحى، فضلا عن المعتقلين. وكان هو يديرها من بعيد... وبعد ذلك، خلال السنوات الأربع من حكم بايدن، لوحق بعشراتٍ من القضايا الجنائية: اغتصاب، فساد، تهرّب من الضرائب، الاحتفاظ بملفات سرّية. كل تهمة، لو وجهت الى مواطن "عادي بسيط"، لقضَت عليه. ماذا لو اتهم بها مرشّح للرئاسة؟ وماذا لو انتصر ذاك المرشّح؟ وبماذا تذكّرنا أنواعٌ كهذه من "الإنجازات" أو "النجاحات"؟

انحياز كبار "السيليكون فاليه" لترامب وتبنّيهم القيم المحافظة الرجعية ليست مسألة "تراجع" ديمقراطي حقوق إنساني وحسب؛ إنها فكرة تتعمّق في الوجدان الأميركي

كان من فضائل الدهر عليه أن خصمه، خلال الحملة الانتخابية، هو جو بايدن؛ عجوز قليل الحيوية، مصابٌ بداء الشيخوخة؛ تائه، متردّد، بطيء، مع أنه لا يكبر ترامب اإلا بأربع سنوات... تراجع عن الترشح لصالح نائبته، كامالا هارس؛ لا يعرف الأميركيون الكثير عنها قبل أن يعيّنها مرشّحة بدلا عنه... سوى لونها وابتساماتها غير الضرورية.

أيضا: محاولتَا اغتياله. الأولى عشناها "لايف"، نجا منها على بُعد مليميترات من أذنه. سقط بسرعة ونهض بأسرع منها رافعا قبضة يده، فالتقطت له تلك الصورة الأيقونة. ترامب الذي يتحدى الموت والإجرام بروح عالية من بركة الله عليه، من حماية الله له... وفي خضم تمجيد الناجي البطل، لم ينطق أحدٌ بكلمة أنه من يشجّع المواطنين على اقتناء السلاح.

ولكن كل هذه المَلَكات لا تكفي لفهم هذا "الحظ". ثمّة سيوفٌ شبه بائنة، بعيدة ومجاورة. لا نعرفها تماما نحن الذين لم نعش في أميركا ولا ولدنا فيها. والمؤكّد أن لها من درس وخمّن وتفحّص أكثر مما نعرف. ومع ذلك، يمكن تسميتها على الأقل، لعلها تفهمنا القليل من الحظ الترامبي الخارق.

أولها، تلك التحوّلات المشار إليها سابقا عن "السيليكون فاليه"، أي في مركز التكنولوجيا العالمية، وكل ما تنتجه من تواصل وروبوتات وفضائيات. انحياز كبارها لترامب وتبنّيها القيم المحافظة الرجعية ليست مسألة "تراجع" ديمقراطي حقوق إنساني وحسب؛ إنها فكرة تتعمّق في الوجدان الأميركي، سيف عميق يقطع مع تصوّر آخر، كانت أميركا فيها مطمئنة إلى زعامتها العالمية. ويمكن لهذا السيف أن يقضي على الديمقراطية في طريقه للاستجابة لضرباته. مثل هتلر الذي صعد إلى التوتاليتارية بواسطة انتخابات ديمقراطية، وسيف ألمانيا وقتذاك: هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. وحظ ترامب القائل بعودة أميركا "عظمية" كما كانت، قبل صعود الصين، هو السيف الذي يجمع بين ترامب وحظه.

ترامب أكثر الرجال حظاً، وفي العالم كله، فالذين يحكمهم ليسوا فقط ناخبيه الاميركيين بل مواطنو الكوكب الأرضي

ما يسمح بالتساؤل، ما الذي يجمع قادة "السيليكون فاليه" بقادة الرأي العربي - الإسلامي في ديربورن، ولاية ميشيغين، الذين انشغلوا طوال العام الفائت بدعم غزّة ولبنان ضد إسرائيل، والذين صوّتوا بعد ذلك لترامب، وبحماسة شديدة... ماذا يجمعهم غير الكلمات التي قالها لهم ترامب "نحن وإياكم أصحاب القيم العائلية التقليدية"... التي "تقدس الحياة"، بوجه هاريس التي تريد أن تخرّبها وتخرّب العائلة، وتسمح بحرية الإجهاض؟ ما الذي يجمع بين "سيليكون فاليه" وأهل ديربورن؟

والديمقراطية نفسها التي فتحت أبواب النجومية لترامب، بفضل واحدةٍ من نتاجاتها الثقافية الشعبية؛ أي البرامج المستجيبة لـ"الواقع"... هي التي آزرته منذ بداية مسيرته. بأن هو وأمثاله من نجوم "الواقع"، أصبحوا قادرين على حكم الملايين، بمجرّد تكرار ظهورهم على الشاشة الصغيرة أيام سعيهم إلى العلا.

ضعف الديمقراطية، بطئها، تعبها، تناقضاتها، تفخيخها بأصحاب المصالح الخاصة... ما يسمح لكارهيها بتعطيلها، بغية الانقضاض على الدولة، بحجّة إنجاح (وتسريع) معاملاتها، أو "فعاليتها". وأيادي ترامب هذه المرة طليقة، لا حسابات أمام مجلسي الشيوخ والنواب، ولا أمام ناخبين لاحقين.

ترامب أكثر الرجال حظاً، وفي العالم كله، فالذين يحكمهم ليسوا فقط ناخبيه الأميركيين، بل مواطنو الكوكب الأرضي. وهو قادر، بعون هذه الجغرافيا، على أن يمدّ حظّه بمزيدٍ من الأسباب، فمن حظّه أيضا أنه أتى بعد تحوّل العالم إلى قرية وشبكة واتصالات... كلها واحدة.