ترامب في قفص الاتهام
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.
انتهى العام المنصرم أسوأ نهاية بالنسبة إلى الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب. وكان ختام العام التقرير النهائي الذي أصدرته لجنة التحقيق في حوادث 6 يناير/ كانون الثاني 2021، التي اقتحم فيها آلاف من أنصار ترامب مبنى الكونغرس بالعنف لتغيير نتائج الانتخابات الرئاسة، وإبقاء الرئيس السابق في منصبه في البيت الأبيض.
يتألّف التقرير النهائي من 845 صفحة، ما يجعل قراءته لغير المختصّين عملاً مرهقاً. ولا أحسب أنّ ترامب، الذي لا يقرأ وثيقة أطول من صفحة واحدة، قد قرأه، لكن لا بدّ أنّ محاميه فعلوا، ولا بدّ أنّهم بيّنوا له مكامن الخطر في التقرير. أهمّ ما في الوثيقة بالنسبة إلى ترامب قرار لجنة التحقيق إحالة ترامب على وزارة العدل، لكي تحقّق معه قضائياً في أربعة اتهامات: التحريض على التمرّد أو المساعدة عليه؛ التآمر للاحتيال على الولايات المتحدة؛ عرقلة إجراء رسمي؛ والتآمر للإدلاء بشهادات كاذبة. كلّ واحدة من هذه التهم خطيرة جداً بحدّ ذاتها، ويمكنها أن تُنهي، في حال ثبوتها، حياة دونالد ترامب السياسية وترسله إلى السجن.
السؤال الذي يشغل بال الأميركيين الآن ما إذا كان الرئيس الخامس والأربعون سيُحاسب قانوناً، مثل قرابة ألف من أتباعه الذين استباحوا الكابيتول هيل (مبنى الكونغرس) لقلب نتيجة الانتخابات في ذلك اليوم. ومن السهل القول، كما قال النائب الديمقراطي جيمي راسكين، من ماريلاند، إن النظام القضائي الأميركي ليس من النوع الذي يرسل "جنود المشاة" إلى السجن، بينما يغضّ الطرف عن القادة والمسؤولين الكبار. وبوجود هذا التقرير المفصل بصفحاته الـ 845 والمستند إلى أكثر من ألف مقابلة وشهادة تحت القسم، بالتأكيد ستُوجَّه بعض هذه التهم، أليس كذلك؟
لكن مهلاً! دعونا لا نسارع إلى تأكيد ذلك، فالمسار القضائي الأميركي معقّد جداً. أولاً، يجب أن يقتنع النائب العام الأميركي بأن القضية تحمل عوامل إقناع هيئة للمحلفين بالتهمة بما لا يدع مجالاً للشكّ. وفي حال حدوث ذلك، سيتولى المدعون العامون الاتحاديون التحقيق في المهمة، وإحالة القضية على هيئة محلفين كبرى لاستصدار قرار ظنّي، قبل أن تبدأ محاكمةٌ لا بدّ أن تكون طويلة جدّاً ومعقّدة جدّاً، ثمّ لا أحد يمكنه أن يتكهّن بالحكم.
من المرجّح، بشكل متزايد، أن يواجه ترامب إجراءات جنائية في أقرب وقت
أجرأ اتهام وجّهته لجنة مجلس النواب هو التمرّد. هذه تهمة خطيرة جداً، لكنّ إمكانية إثباتها بما لا يقبل الشك هي الأقل احتمالاً. جادلت اللجنة في تقريرها بأنّ ترامب لم يكتفِ بالتحريض على اقتحام مبنى الكابيتول فحسب، بل قدّم فوق ذلك الدعم ووفّر لهم الوقت من خلال عدم التدخل لإنهائه. ولا أحسب أنّ أيّاً من المدّعين العامّين سيتبنّى قضية احتمال إثباتها بهذه الضآلة، إذ عادة ما يفضل المدّعون الفيدراليون القضايا التي يسهل الفوز بها، أي التي يسهل إثباتها أمام هيئة المحلفين. وتتطلب لوائح وزارة العدل من المدّعين النظر في ما إذا كان من المحتمل أن تؤدي القضية إلى إدانة قبل تقديم لائحة اتهام.
التهمة الثانية هي التآمر للاحتيال على الولايات المتحدة، وهي بدورها ليست بسيطةً. ورغم أنّ ثمّة من الأدلة ما يمكن أن يقنع بعض المحلفين، فإنها لن تقنع جميعهم. لكنّ التهمة الأسهل من سابقتيها، عرقلة الإجراءات الرسمية، في محاولةٍ من ترامب لمنع الكونغرس من الفرز الرسمي للأصوات الانتخابية. ويبقى الاتهام الرابع أقرب منالاً وأكثر جاذبيةً لهيئة المحلفين، وهو التآمر للإدلاء بشهادات كاذبة تحت القسم.
بيد أنّ هنالك قضايا أخرى غير هذه يمكنها أن تضع ترامب في قفص الاتهام بسهولة أكبر. أهمها التحقيق الذي يجريه المستشار الخاص لوزارة العدل، جاك سميث، في قضية الوثائق السرّية التي هرّبها ترامب من البيت الأبيض إلى مقرّ إقامته في فلوريدا. لكن، حتى قبل أن تنتهي تحقيقات جاك سميث، هنالك الاتهامات الرسمية التي قد يواجهها ترامب في جورجيا، حيث يحقّق المدّعي العام في الولاية في مطالبة الرئيس بأن "يجد" مسؤولو الولاية أصواتاً كافية لإلغاء انتصار بايدن هناك. والحال أنّ هيئة المحلفين الكبرى تقوم حالياً بالفعل بكتابة تقريرها النهائي في ما إذا كانت تصرفات ترامب تنتهك قانون جورجيا الذي يحظر التماس تزوير الانتخابات. لذلك، من المرجّح، بشكل متزايد، أن يواجه ترامب إجراءات جنائية في أقرب وقت. في هذه الأثناء، أعلن ترامب ترشّحه مبكّراً جداً لانتخابات 2024. إلا أن انتصاره في الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري له، ثم فوزه في الانتخابات العامة، سيكون أمراً مشكوكاً فيه إلى حدّ كبير.
لن يواجه ترامب في الأشهر المقبلة الديمقراطيين فحسب، بل سيواجه أيضاً المؤسسة الجمهورية التقليدية
أظهر استطلاع جديد أجرته شبكة CNN أنّ ستة من كلّ عشرة أميركيين جمهوريين أو يميلون إلى الحزب الجمهوري لا يريدون أن يروا الرئيس السابق دونالد ترامب مرشّحاً لرئاسة الولايات المتحدة في عام 2024. وهذه النسبة انحدار عن نتائج استطلاعات سابقة في الأشهر الاثني عشر الماضية. ففي يناير/ كانون الثاني من العام الفائت، كانت نسبة مؤيدي ترشيح ترامب نحو 50%، انحدرت إلى 44% في يوليو/ تمّوز، ثمّ إلى 38% في ديسمبر/ كانون الأول.
أين أخطأ ترامب؟ قد يكون السؤال الأفضل: أين أصاب ترامب. الخطوة التي كان من المفترض أن تظهر مدى قوته، هي التبكير في إعلان ترشّحه للرئاسة، جاءت في الحقيقة لتُظهر ضعفه. كان من المفترض أن يثني إعلان ترامب الترشّح المنافسين المحتملين عن الدخول في سباق خاسر معه. ولكن ما حدث هو العكس تماماً، فخسارة المرشّحين الذين دعمهم في الانتخابات النصفية أعطت الانطباع بأنّ الرجل قد بات حصاناً خاسراً، وأنّ المراهنة عليه استثمار رديء. وهنالك بالتأكيد نسبة من الأميركيين لا تزال مستعدّة للتصويت له في أي وقت، ولا تزال جاهزة للتبرّع له بالأموال في أي لحظة يطلبها. إلا أن هذه النسبة آخذة بالتآكل، فهي انخفضت من نحو 45% من الأميركيين إلى نحو 35% منهم حالياً، أو أقل.
لن يواجه ترامب في الأشهر المقبلة الديمقراطيين فحسب، بل سيواجه أيضاً المؤسسة الجمهورية التقليدية التي يمثلها زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل. ويواجه أيضاً كتلة متراصّة من الجمهوريين الشباب الذين يميلون أكثر إلى شخصٍ يستلهم أسوأ ما في جعبة ترامب، لكنّه أكثر شباباً وأشدّ جاذبية وأقلّ فضائحية. ويبرز هنا، بشكل رئيسي، منافس كبير لترامب حاكم فلوريدا، رون ديسانتِس، الذي تظهر كلّ استطلاعات الرأي أنه يتفوّق على ترامب بين الجمهوريين، بفارق 15% تقريباً.
من بين الأصدقاء الذين كانوا يحجّون إلى بيت ترامب، فلم يبقَ سوى محامٍ خرف وبائع وسائد مختلّ ومغني راب معادٍ للسامية
باختصار، من الصعب أن نتخيّل كيف يمكن أن تكون حالة ترامب أسوأ مع رحيل عام 2022. استقبل العام الجديد بـ 23 قضية مرفوعة ضدّه في المحاكم الأميركية، بخلاف تحقيق جاك سميث ولجنة 6 يناير. وهج شعبيته يخبو، وقاعدته الصلبة تتعرّض للحتّ، والقضاءُ يلاحقه، وخيرة المحامين يتخلّون عنه، إما لأنهم يدركون أن قضيته خاسرة، أو لأنه لا يدفع لهم أتعابهم.
اختصر كاتب العمود، جوناه غولدبيرغ، في مقالة له في صحيفة لوس أنجليس تايمز، حين وصف ترامب بأنه "الشخصية الأكثر حزناً في سياسة ما بعد الرئاسة"، مُزِيحاً بذلك الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون الذي ظلّ خمسة عقود الشخص الأكثر حزناً. والتناقض بين الرجلين ما بعد الرئاسة كبير جداً. كتب نيكسون عشرة كتب، معظمها مهمّ للغاية، بما في ذلك مذكّراته، واستطاع أن يستعيد سمعته رجلاً حكيماً يقدّم المشورة إلى الرؤساء. وكان إلى ذلك محاطاً على الدوام بعائلة محبّة وأصدقاء حقيقيين. كانت زوجته الأولى والوحيدة هي حبّ حياته. وبعد فترة طويلة من وفاة نيكسون، ظلّ هؤلاء جميعاً يعتزّون بذكراه.
في المقابل، بدأ أصدقاء ترامب وأعضاء عائلته يتخلّون عنه، فقد تخلت عنه ابنته المفضّلة إيفانكا وزوجها الذي استفاد أطناناً من رئاسة ترامب. أما زوجته الثالثة ميلانيا، فمعروف نفورها الدائم منه، وابتعادها عنه، منذ انتشار فضيحته مع بائعة الهوى ستورمي دانييلز، التي اضطر إلى أن يدفع لها 130 ألف دولار ليسكتها قبيل انتخابات 2016. إلى ذلك، يلاحق القضاء والدائنون ترامب في قضايا مدنية لا تنتهي. أما من بين الأصدقاء الذين كانوا يحجّون إلى بيته، لم يبقَ سوى محامٍ خرف وبائع وسائد مختلّ ومغني راب معادٍ للسامية.
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.