ترامب وماراثون الانتخابات الرئاسية الأميركية
على الرغم من أنّ محاولات التنبؤ بالمستقبل انطلاقاً من اللحظة الراهنة قد تؤدي، في أحيانٍ كثيرة، إلى نتائج غير دقيقة، إلا أنّ استخدام التحليل المستند إلى بعض المقاربات التي تأخذ بالاعتبار أبعاد اللحظة الراهنة وفق سياقها الزماني وتطوّرات الأحداث اليومية، سيعطي إمكانية تلمّس المآلات المرتبطة بالمقدّمات، وإمكانية التنبؤ بمسارات أي حدثٍ مستقبلي.
ما يدعو إلى هذه المقدمة الكلام الكثير الذي يُثار بشأن موضوع سباق الانتخابات الرئاسية الأميركية رقم 60، والذي يبدو أنه سيجري وسط توقعات مختلفة تماماً عن سابقاته، بعد أن بدأ هذا السباق يأخذ مساراتٍ متعدّدة ومتناقضة، سيما بعد قرار المحكمة العليا في ولاية كولورادو، ووزيرة خارجية ولاية مين، حجب اسم ترامب عن بطاقات الاقتراع في الولايتين لعدم أهلية ترامب لخوض الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري باعتباره متمرّداً بموجب أحكام التعديل الـ 14 للدستور الأميركي، لدوره في أحداث 6 يناير (2021).
إذا ما أردنا التحدّث عن تبعات هذه الأحكام والقرارات، فإن صدور هذه الأحكام يعد خطوة جريئة وبالغة الأهمية، ويشكّل انتصاراً للناخبين المناهضين لترامب، ويجعل من الأخير أول مرشّح في تاريخ الولايات المتحدة يعتبر غير مؤهل للرئاسة بسبب تورّطه في تمرّد، إلا أن مثل هذه الأحكام تثير تساؤلاتٍ عديدة بشأن صحتها القانونية ودوافعها السياسية، سيّما بعد رفض هيئات قضائية أميركية عديدة هذه الأحكام، على اعتبار أنّ الدستور الأميركي يميّز منصب الرئاسة عن المناصب الفدرالية، فيما يتعلق بالتمرّد، وترى أنّ منصب الرئاسة غير مشمول بقائمة المناصب الفيدرالية المعنيّة ببند التمرّد.
وإذا ما أخذنا بالاعتبار أيضاَ أنّ ترامب، حتى اللحظة، لم يُدَن بتهمة التمرّد فيما يتعلّق بأحداث 6 يناير، فإنّ تبعات هذه الأحكام والقرارات تبقى ضمن الحدّ الأدنى من التأثير السلبي على ترامب، على اعتبار أن حكم عدم الأهلية، في حال عدم إلغائه من المحكمة العليا، يسري فقط على الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري في هاتين الولايتين المحسوبتين على الديمقراطيين، كما أنّ من المتوقع أن ينقض قضاة المحكمة العليا الأميركية القرار الذي اتخذته المحكمة في ولاية كولورادو، في ظل وجود ستة قضاة من قضاة المحكمة العليا المؤلفة من تسعة قضاة من أصحاب الميول الجمهورية، ثلاثة منهم قام ترامب بتعيينهم خلال فترته الرئاسية، بينما ثلاثة فقط من ذوي الميول الديمقراطية.
لن يكون مفاجئاً في أميركا وخارجها أن نرى ترامب ينتقل من القسم على قول الحقيقة في قاعة المحكمة أمام القضاء وهيئة المحلفين، إلى القسم على تنفيذ الدستور عند تنصيبه أمام مبنى الكابيتول
وعلى الرغم من أنّ هذه الأحكام والاتهامات كفيلة بإبعاد دعم الملايين من الناخبين عن أي شخصٍٍ متهم، وكذلك إسقاط أي مرشّح تقليدي، فإنّ هناك من يرى أن ترامب سيستغل هذه القضايا والأحكام لصالحه ليكون الخيار الأول لغالبية الناخبين الجمهوريين لنيل ترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة. وإذا كان أنصار ترامب التقليديون يؤيدونه أصلاً ويرون معه أن مؤسّسة الدولة كلها ضده، فإنّ هذه الأحكام ربما تكسب ترامب مزيداً من المتعاطفين من غير المحافظين اليمينيين المتشددين، وبذلك يمكن ببساطة أن تتجاوز حظوظ ترامب الرئاسية أكثر من نصف الأميركيين الذين يصوّتون تقليدياً للجمهوريين، وهذا ما تؤكّده استطلاعات الرأي التي لا تعطي الصدارة لترامب أمام جميع منافسيه الجمهوريين لنيل ترشيح الحزب للانتخابات الجمهورية فحسب، وإنّما تعطيه الصدارة على بايدن، في حال إجراء الانتخابات اليوم.
وبالتالي، كلما زادت الضغوط على ترامب، ووُجه له مزيد من الاتهامات، زادت شعبيته في أوساط الجمهوريين، ويرجع الأمر في ذلك إلى مجموعة من الأسباب، أهمّها عقلية رجل الأعمال التي يملكها ترامب، والتي ينجح من خلالها في الاستفادة من كل التحدّيات، وتحويلها إلى فرص لحشد مؤيديه المؤمنين بنظريات المؤامرة التي يتبنّاها، فترامب لا يزال ممسكاً بالقاعدة الجمهورية، على الرغم من المشكلات القضائية التي يواجهها. وهذه القاعدة الصلبة تراوح نسبتها ما بين 30% و35% من الناخبين يبدو أنها ستظلّ موالية ومخلصةً له بشدّة، وترى في كل إدانة أو حكم عليه عملية اغتيال ذات دوافع سياسية، غرضها محاولة سرقة الانتخابات وحرمان الناخب الأميركي من حقه في التصويت لمنع إعادة انتخاب ترامب، يُضاف إلى ذلك جاذبية رسائله الشعبوية التي ما زالت قادرة على جذب مزيدٍ من الأنصار من الطبقات المتوسّطة والشعبية المعادية للنخبة، والتي ترى في ترامب شخصية محرّكة للتغيير، وليست أسيرة لهذه النخبة الفاسدة.
ختاماً، يمكن القول، بغض النظر عن كل التحدّيات التي قد تواجه ترامب، سواء فيما يتعلق بأحكام عدم الأهلية، أو لوائح الاتهام الموجهة ضده في أكثر من ولاية، وحتى محاكمته، سيبقى ترامب مخيّماً بظله الكبير على ماراثون الانتخابات الرئاسية، على الأقل حتى نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. لذلك لن يكون مفاجئاً في أميركا وخارجها أن نرى ترامب ينتقل من القسم على قول الحقيقة في قاعة المحكمة أمام القضاء وهيئة المحلفين، إلى القسم على تنفيذ الدستور عند تنصيبه أمام مبنى الكابيتول، ليكون الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأميركية.