ترقّب وتحدٍّ في الضفّة الغربية
لم يكن قطاع غزّة الجبهة الوحيدة التي أعلن القادة الصهاينة الحرب عليها منذ اليوم الأول بعد عملية طوفان الأقصى، إذ أعلنوا بوضوح كامل أن هذه الحرب ستشمل أربع جبهات، وقد تمتد إلى أكثر من ذلك، فإضافة إلى النيران المشتعلة في غزّة، هناك جبهة الشمال، حيث حزب الله، والتي خُصصت لها قوات برّية وأخرى من سلاح الجو الذي هدّد بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، وهي جبهةٌ اندلعت ضمن قواعد اشتباك رُسمت لها حدودٌ ما زال الطرفان يتقيّدان بها، مع احتمال كبير لتوسّعها. وهناك جبهة الداخل الفلسطيني، حيث يعيش العرب الفلسطينيون الذين تشبثوا بأرضهم منذ عام 1948، وقد فُرضت عليهم، منذ اليوم الأول للحرب، أحكام عرفية لتكميم الأفواه وقمع الحراكات، وصلت إلى حد فرض عقوبات بالسجن والفصل من الوظيفة لكل من يُبدي ذرّة من التعاطف مع أطفال غزّة، أو حتى يُعثر في هاتفه على أي مادة تشير إلى ذلك. أما الجبهة الرابعة الملتهبة فهي الضفّة الغربية المحتلة، حيث تتابعت اقتحامات الجيش الإسرائيلي اليومية لمخيّمات جنين وطولكرم ونابلس والخليل وعشرات القرى والمدن، واستُخدم فيها سلاح الجو والمدرّعات والجرافات، بينما تولّى المستوطنون (عددهم نحو ثمانمئة ألف) مهمّة قطع الطرقات، ومداهمة القرى، وفصل مدن الضفّة وقراها بعضها عن بعض، وسرقة الزيتون ومنع المزارعين من قطف ثماره، ما أشاع حالة من الخوف والقلق بين السكّان، ومنعهم من الانتقال من منطقة إلى أخرى؛ تحسّبًا من اعتداءات المستوطنين الذين مُنحوا ضوءًا أخضرَ لتنفيذ اعتداءاتهم من دون أن تتصدّى لها قوات الأمن الفلسطينية (نحو 80 ألفًا)، وهي إذا كانت عاجزة عن التصدّي للجيش الإسرائيلي، حال اقتحامه المدن والقرى والمخيّمات، فثمّة تساؤل كبير عن سبب عدم حمايتها المواطنين الفلسطينيين من اعتداءات المستوطنين. ويذكر أن الجيش الإسرائيلي قصف في أثناء الانتفاضة الثانية مقارّ قوات الأمن الفلسطينية، كما أن عتاة الصهاينة حرّضوا، بعد "طوفان الأقصى"، على هذه القوات، وطالبوا بحلّها ونزع سلاحها؛ محذّرين من احتمالية مهاجمتها المستوطنات في الضفّة الغربية، وتكرار ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول في هذه المستوطنات، ما يجعلها هدفًا محتملًا للاعتداءات الصهيونية.
ثمة ما يوجب التفكير في المخاطر التي تتهدد الضفة الغربية خلال الحرب على غزة أو بعدها، وسبل مواجهتها
وقد استُشهد في الضفة الغربية، منذ 7 أكتوبر حتى كتابة هذا المقال 214 فلسطينياً، وجُرح أكثر من ثلاثة آلاف، واعتُقل ما يزيد على 2800 فلسطيني، استُشهد منهم ستة تحت التحقيق. كما نُسفت بيوت، وقُصفت مواقع وأحياء بالطائرات الحربية والمسيّرة، وجُرفت شوارع وبُنى تحتية، وأُزيلت نُصب تذكارية، منها تماثيل ياسر عرفات. وذلك كله في وقتٍ تصاعدت المقاومة الشعبية والمسلحة في الضفة الغربية كلها، فشهدنا مسيراتٍ جماهيرية تجوب الأزقّة والشوارع في ساعات متفرّقة من الليل والنهار، وتصاعدت هذه الحالة بعد قصف المستشفى المعمداني في غزّة، لتصبح ممارسة يومية تتحدى إجراءات السلطة الفلسطينية، واشتبك بعضها مع الجنود على الحواجز العسكرية الإسرائيلية. وفي ظل ذلك، تراجعت شعبية السلطة والرئيس، وبلغت أدنى مستوياتها، وارتفعت حناجر المتظاهرين بالهتاف ضدّها، والإشادة بالمقاومة في غزّة. كما اشتدّ ساعد المقاومة، فرديةً كانت أم منظمّة، وشهدنا عدّة عملياتٍ جريئة، تراوحت ما بين الطعن بالسكين والدهس وإطلاق النار من أسلحة رشاشة ونصب الكمائن واستخدام العبوات الناسفة.
إذا كانت هذه هي صورة الوضع الراهن لحال الضفة الغربية، فثمّة ما يوجب التفكير في المخاطر التي تتهدّدها خلال الحرب أو بعدها، وسُبل مواجهتها. ولعلنا نبدأ بإعلان وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير تأسيس الحرس الوطني الذي يتبع لإمرته، وتسليحه، وقد سُلّح خلال الأسبوعين الماضيين ما يزيد على 30 ألف مستوطن، من أصل 190 ألف مستوطن تقدموا بطلبات تسليح منذ بداية الحرب، ولا تزال طلباتهم قيد الدراسة، وهذا يعني أن جيشًا للمستوطنين، بقيادة بن غفير، يتشكّل في أرجاء الضفّة الغربية. كما أعلن الجيش الإسرائيلي عن نيته تنفيذ ثلاث مناورات برية في مناطق الضفّة؛ شمالها ووسطها وجنوبها، لاختبار جاهزيّة الجيش الإسرائيلي، ولعلها تهدف إلى إعادة اجتياحها وإحكام سيطرته عليها.
اليوم التالي للحرب ستحدّده مسارات الحرب والحراكات الشعبية العربية والغربية، ولعل من المبكر الحديث عنها
وما زالت السلطة الفلسطينية مرتبكة، وخارج دائرة الفعل، ولعل جهدها الرئيس يتمثل في السيطرة على الوضع ومنعه من الانفجار، وفق اتفاقها مع وزير الخارجية الأميركي بلينكن، مقابل وعود أميركية بتأمين دور ما لها في ترتيبات ما بعد الحرب في غزّة، وربما لأجل ذلك علّقت الدوام المنتظم في المدارس الحكومية واستبدلته بالتعليم عن بعد، بطلبٍ من اﻷجهزة اﻷمنية، في محاولة للحدّ من التظاهرات اليومية. وتعترض الحكومة الإسرائيلية على هذا الدور، متعذّرة بفشل السلطة الفلسطينية في ضبط الأوضاع في الضفة، فكيف ستتمكّن من ذلك في غزّة! مختبئة بذلك خلف الهدف الإسرائيلي منذ ولادة الانقسام، والمتمثل بمنع وحدة الضفة الغربية وقطاع غزّة في كيان واحد.
اليوم التالي للحرب ستحدّده مسارات الحرب والحراكات الشعبية العربية والغربية، ولعل من المبكر الحديث عنها، ولكن أصبح واضحًا أن نتنياهو سيغادر الحياة السياسية، ومعه ستتراجع الصهيونية الدينية، ومن المرجّح أن تحاول إعاقة أي جهد دولي يسعى إلى بناء مسار سياسي للقضية الفلسطينية، عبر إعلان ما تُعرف بدولة يهودا والسامرة المرتكزة على 800 ألف مستوطن في الضفة، يسلّحهم ويقودهم بن غفير وسموتريش الذي تحدّث في خطةٍ سبق أن نشرها مطلع هذا العام، وتضمّنت فرض السيادة اليهودية على الضفّة الغربية، وتحويل التجمّعات السكانية فيها إلى كانتونات منفصلة، وأن تستبدل بالسلطة بلديات لا تمثل مشروعًا وطنيًا، ولا رابط بينها، وصنّف الفلسطينيين إلى ثلاث فئات: من يقاوم ذلك، وهذا يصنّف إرهابيًا ويُطارد. ومن يتمسك بهويته الوطنية، وهذا يُهجّر. والثالث يُمنح إقامة مؤقّتة، فإذا ثبت ولاؤه لدولة الاحتلال لاحقًا يمنح جنسيتها وهم قلة.
جرى تداول نشرات للمستوطنين تهدّد أهل الضفة، وتدعوهم إلى الهجرة إلى اﻷردن قبل فوات اﻷوان
وثمّة أفكار صهيونية عن ضرورة البدء الآن في إقامة دولة يهودا والسامرة في الضفة الغربية، بتواطؤ أو اعتراض محدود من الحكومة الإسرائيلية، وتصوير الوضع في الضفة صراعا بين مجموعتين من السكّان المقيمين فيها، ولعل ظروف الحرب الحالية تشجّعهم على ذلك، وتغريهم بأن الوقت صار مناسبًا، وقد جرى تداول نشرات للمستوطنين تهدّد أهل الضفة، وتدعوهم إلى الهجرة إلى اﻷردن قبل فوات اﻷوان.
وحذّر الأردن من تهجير الفلسطينيين، واعتبر ذلك بمنزلة إعلان حربٍ، ولعلّه يخشى استغلال الصهاينة الوضع الحالي، ومحاولات تهجير أهل غزّة بقوة النار، لتكرار هذا السيناريو في الضفة الغربية أيضًا. وقد لجأت الحكومة الأردنية إلى اتخاذ مزيد من إجراءات الدعم لأهالي الضفة الغربية، فأرسلت 45 ألف طن من القمح والحبوب، وأعلنت عن تأسيس مستشفى ميداني أردني في نابلس يرافقه نحو 120 كادرًا طبيًا، ويضم غرف عمليات وعناية حثيثة، وهو ما يستحقّ الثناء والتقدير، ويساهم في دعم صمود أهل الضفّة الغربية وثباتهم على أرضهم، على الرغم من أنه أثار قلق أهل الضفّة، واعتبروه قرعًا لناقوس الخطر لما يحمله قادم الأيام من مواجهاتٍ قد تنشب مع المستوطنين، استوجبت مستشفى ميدانيًا في الضفة الغربية.
المخطّطات الصهيونية معروفة منذ نشأت الحركة الصهيونية، وهي ليست قدرًا، وقد تعلّم الشعب الفلسطيني من دروس النكبة ما يجعله ثابتًا على أرضه، صامدًا فيها، متمسّكًا بمقاومته، ولديه القدرة على إحباط هذه المخطّطات وهزيمتها، سواء في قطاع غزّة أم الضفة الغربية.