تركيا وتحالفات الضرورة الانتخابية
في انتخابات رئاسية وبرلمانية، تبدو أكثر أهمية وحساسية من كل سابقاتها منذ عام 2002، لا سيّما أنّها تتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية عام 1923، ومع بدء العد التنازلي للانتخابات المزمع تنظيمها في 18 يونيو/ حزيران 2023، بدأت سياسة التحالفات الحزبية داخل تركيا تهيمن على المشهد الداخلي، مكتسبة أهمية خاصة في ظلّ حالة الاستقطاب السياسي المرتفعة جداً في البلاد.
فبعدما اقتصرت تحالفات انتخابات عام 2018 على تحالفين رئيسين؛ "تحالف الشعب" الحاكم المكوّن من حزب العدالة والتنمية والحركة القومية، و"تحالف الأمة" المعارض المكوّن من حزبي الشعب الجمهوري والجيد، شهدت الأشهر الماضية حراكاً واضحاً في خريطة التحالفات الحزبية، بعد أن بدأت تتبلور في البلاد ملامح استقطاب شامل وعابر للأيديولوجيات والتوجهات، تمكّن خلالها "تحالف الأمة" المعارض من توسيع إطار التنسيق بينه وبين أربعة أحزاب أخرى ذات خلفيات يمينية وقومية، الديمقراطية والتقدّم برئاسة علي باباجان، المستقبل برئاسة أحمد داود أوغلو، الديمقراطي برئاسة جولتكين أويصال، السعادة برئاسة تمل كارامولا أوغلو، تحت مسمّى "طاولة الستة"، كما شهدت الأيام الماضية مولد تحالف انتخابي جديد حمل اسم "تحالف العمل والحرية"، ضمّ إلى جانب حزب الشعوب الديمقراطية الكردي، الذي يعد ثالث أكبر أحزاب البرلمان التركي الحالي بعد حزبي العدالة والتنمية (الحاكم) والشعب الجمهوري المعارض، خمسة أحزاب يسارية أخرى: الحركة العمالية، العمّال، اتحاد الجمعيات الاشتراكية، العمال التركي، الحرية المدنية.
تشير حالة الاستقطاب الحالية التي تشهدها البلاد على أن الفترة التحضيرية التي تسبق الانتخابات ستشهد مزيداً من التحالفات السياسية والحزبية
صحيح أنّ هذه الأحزاب المنضوية تحت مسمّى "طاولة الستة" لم تشكّل بعد تحالفاً انتخابياً، وصحيح أنّها تأتي من خلفيات متباعدة ومتناقضة (يمينية، يسارية وقومية) لكن مجرّد اجتماعها معاً على معارضة السلطة القائمة، واتفاقها على مبدأ واحد هو العودة إلى النظام البرلماني المعزّز، يُعدّ أمراً استثنائياً في التاريخ السياسي الحديث لتركيا، فالمعلن بشأن هذا الاستقطاب يدور حول النظام الرئاسي، لكنّ جوهر هذا الاستقطاب محوره الرئيس أردوغان ذاته، وهذا ما يمكن استخلاصه من طبيعة التحالفات المشكّلة، والتي تجمع أحزاباً متناقضة ومتباعدة، بعضهم كان خصماً تاريخياً للبعض الآخر، كما هو الحال مع حزبَي الشعب الجمهوري والسعادة مثلاً.
وإذا كانت المعارضة تبني خطابها الانتخابي وتحرّكاتها الداخلية بانتقاد سياسات الحكومة الاقتصادية والمالية والمعيشية، التي تشكل أوّل أولويات الناخب التركي، وتعتمد عليها في تحديد سياسات ووعود انتخابية تحاكي عواطف الناخبين المستائين من التراجع المتسارع لجودة حياتهم، وشحنهم بالكراهية، مستخدمين كلّ الوسائل، بما في ذلك تأجيج العنصرية والتحريض ضد اللاجئين ونشر الإشاعات الكاذبة، فإنّ تحالف الحكومة يبني استراتيجيته الانتخابية على ثلاثة عناوين رئيسة: تذكير الناخبين الأتراك بالإنجازات التي استطاع أردوغان وحزبه تحقيقها خلال العقدين الماضيين، والتي قد تدفع شريحة كبيرة من الأتراك إلى إيثار الاستقرار والخبرة في إدارة البلاد على الخوض في مسار مجهول مع أحزاب المعارضة، والإعلان عن الخطوات والقرارات المتّخذة من الحزب بشكل علني ومباشر للجمهور، وتحالفاته الإقليمية مع دول مؤثّرة يُتوقع لها أن تُساهم بشكلٍ كبيرٍ في دعم الاقتصاد التركي وإنعاشه.
الملف الاقتصادي محدّد أساسي لتحديد الرابح والخاسر في انتخابات 2023
وبالتالي، إن كان الجميع في تركيا وخارجها يتّفقون على أن الانتخابات المقبلة مصيرية لحاضر البلاد ومستقبلها، تؤشّر حالة الاستقطاب الحالية التي تشهدها البلاد على أن الفترة التحضيرية التي تسبق الانتخابات ستشهد مزيداً من التحالفات السياسية والحزبية، والتي ستفتح بدورها الباب واسعاً أمام مزيد من الاستقطابات الحادّة، خصوصاً أنّ الظروف التي ستجري فيها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية هذه المرّة، مختلفة عن سابقاتها، في ظل وضع اقتصادي صعب داخلياً وخارجياً، سماته الأهم ارتفاع نسبة التضخم وغلاء الأسعار، لذا يمكن القول إنّ التغيرات التي تشهدها تركيبة الأحزاب التركية والتحالفات المتنامية لدى المعارضة ستتبعها تحرّكات مقابلة من تحالف الحكومة، سيقف على رأس هذه التحركات توسيع التحالفات الانتخابية لاستقطاب بعض الأحزاب التركية، كحزب الاتحاد الكبير وحزب السعادة، للحصول على دعمها في مواجهة تحالفات المعارضة.
ختاماً، الملف الاقتصادي محدّد أساسي لتحديد الرابح والخاسر في انتخابات 2023، ما يعني أنّ أي خطوات من السلطة الحالية في مسار تحسين الواقع الاقتصادي والمعيشي للمواطن قبل الانتخابات ستؤدي إلى تغيّر الصورة الحالية لاستطلاعات الرأي التي يرجّح بعضها فوز التحالف المعارض الذي يأتي في المقام الأول لضرورات انتخابية. وعليه، فهذه التغيّرات إذا ما نتج عنها رضا لدى المواطن التركي، فعندها فقط يمكن الحديث عن فوز أكيد لـ"العدالة والتنمية" ورئيسه أردوغان، والدخول بتركيا إلى مرحلة جديدة ومختلفة في مسيرتها السياسية، والتي سترسم معالم المستقبل القريب لها وستؤثر بكلّ تأكيد في محيطها.