تركيا ومرحلة جني الثمار بين دمشق وواشنطن

16 نوفمبر 2024
+ الخط -

في مقابلة مع صحيفة كوبار بار التركية، في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، أطلق وزير الدفاع التركي، يشار غولر، تصريحاتٍ أثارت جدلاً كبيراً لدى الأوساط السورية، لما تحمله من رسائلَ مهمّة حملت أكثر من تفسير. إذ قال إنّ الجيش السوري الحرّ سيكون جزءاً من مستقبل الجمهورية السورية، وإن على بشّار الأسد أن يقيّم تقييماً جيّداً عندما يتحدّث الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، وأن يأخذ كلام الأخير على محمل الجدّ في موضوع التطبيع، فيستفيد من الفرصة المواتية، التي وصفها بـ"الإيجابية للدولة السورية"، التي تفتقر إلى "القاعدة الشعبية"، وشدّد الوزير على أن قواته المنتشرة في سورية لن تنسحب قبل تحقيق "معادلة الأمن القومي التركي".

اللافت أنّ تصريحات غولر تزامنت مع جرعة جديدة من غزل الرئيس التركي لبشّار الأسد، فبُعيد انتهاء مؤتمر القمة العربية والإسلامية، الذي نظّمته السعودية (11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري)، قال أردوغان إن على الأسد أن يدرك أنّ وحدة سورية ليست مهدّدة من السوريين، وأن تطبيع العلاقات مع دمشق سيفتح الباب أمام السلام والهدوء في الأراضي السورية، مذكراً الأسد بأن التهديد الإسرائيلي لسورية ليس قصّةً خيالة. كما لم يُغفِل أردوغان التذكير بعزم تركيا استئناف عملياتها البرّية لتأمين الحدود، وإنشاء المنطقة الآمنة في كلّ من سورية والعراق.

دفعة كبيرة من التصريحات جاءت من أعلى هرم السلطة، ورسائل وصفها بعضهم بـ"الأخيرة" لرأس النظام السوري قبل فوات الأوان، وقبل دخول المنطقة مرحلةَ التسويات في حقبة ترامبية جديدة، تنتظر مرحلة التفعيل لحظة دخول الرئيس الجديد، دونالد ترامب، البيت الأبيض (يناير/كانون الثاني 2025). الأمر الذي طرح تساؤلات عن نيّاتٍ تركيّةٍ جاءت هذه المرّة بسقف مرتفع، وممهّدةً لاتخاذ قراراتٍ حاسمةٍ في الملفّ السوري. فما الذي تسعى إليه في ظلّ التطورات الجديدة في الساحة الدولية، التي بدأت منذ انطلاق "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر (2023)؟ وهل ستنجح أنقرة في نزع مكاسبَ سياسيةٍ كانت عجزت عن تحقيقها في حقبة الديمقراطيين الأميركيين (إدارة جو بايدن)، وهل رفع سقف أهدافها مستند إلى مجيء من وصفه أردوغان بالصديق دونالد ترامب فقط، أم أنّها ستعود إلى سياستها القديمة في حقبة ترامب الأولى في تحقيق توازن في علاقاتها الخارجية التنافسية بين واشنطن وروسيا؟

روسيا وتركيا كانتا الأكثر استشعاراً بطبيعة التغييرات المقبلة إلى المنطقة، لا سيّما بعد توسيع رقعة الحرب لتطاول لبنان وسورية

المُتّتبع للسياسة التركية يعلم جيداً أن تطوّرات جديدة دخلت السياسة التركية الداخلية والخارجية منذ العام 2016، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، وإسقاط أنقرة الطائرة الروسية، إذ استدارت تركيا من الغرب إلى الشرق، واعتمدت سياسة تصفير المشاكل مع السعودية ومصر والإمارات، ومدّت جسوراً كثيرةً نحو روسيا في مجالات سياسية وطاقوية، وانتزعت مكاسبَ في ليبيا، وفي ناغورنو كاراباخ ونيجيريا والعراق، وحتى في أوكرانيا في ملفّ نقل الوساطة ونقل الحبوب. لكنّ سورية كانت الأكثر أهميةً، إذ استطاعت أنقرة شنّ ثلاث عمليات برية لتأمين حدودها الجنوبية، آخرها كانت في حقبة ترامب الأولى (عملية نبع السلام 2019). مع ذلك، لم تستطع أنقرة أخذ ما تريده آنذاك، فبقيت مدينة منبج السورية ملفّاً معلّقاً، ولم يُطبَّق الاتفاق الذي وقّعته آنذاك مع إدارة ترامب لإكمال مشروع الحزام أو المنطقة الآمنة، وفشلت في إقناع الإدارة الأميركية بكفّ يدها عن دعم ذراعها في شرق الفرات، "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد). حتى موضوع انسحاب القوات الأميركية، الذي قرّره ترامب في 2020، تراجع عنه بعد ضغط من مجلسَي الشيوخ والنواب، وتعرّضت تركيا لحزمة عقوبات اقتصادية ومالية بعد التوتّر الذي حصل في قضيّة القسّ برونسون. مع ذلك، ظلّت تركيا طيلة السنوات الماضية تناور، وتحافظ على خطّ التوازن بين إدارة بايدن المنتهية ولايته، وروسيا التي دخلت في الوحل الأوكراني، ونجحت أيضاً في الحفاظ على مصالحها في الشمال السوري، وفي الهدوء ضمن مسارَي أستانة وسوتشي مع كلّ من إيران وورسيا.

الخطوة الوحيدة التي أجرتها في الملفّ السوري طيلة فترة الديمقراطيين هي فتح مسار تطبيع العلاقات مع النظام السوري منذ العام 2022، الذي تعرّج بسبب تعنّت الأسد ورفضه النزول أمام المطالب التركية، حتى بات أردوغان يطلب لقاء الأسد، في أكثر من مناسبة تحت رعاية روسية، لكن خفتت وتيرة هذا المسار بعد عمليات إسرائيل العسكرية ومجازرها في غزّة ولبنان، وتغيّرت مع هذه التطوّرات حسابات اللاعبين الفاعليين في الملفّ السوري، بمن فيهم روسيا، التي صرّحت قبل أسبوعين (بحسب قناة روسيا اليوم) بإيقاف مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق، معلّلة ذلك برفض تركيا تلبيةَ شرط النظام السوري بتحديد جدولٍ لانسحاب قواتها من سورية، كما طلبت من العراق إيقاف وساطته لتقريب وجهات النظر بين الطرفَين.

مشروع خبيث تقوده إسرائيل في المنطقة، يبدأ بتفتيت سورية إلى أقاليم عرقية، وقد لا ينتهي بتهديد عمق الأناضول

من المهم التذكير بسبب إصرار تركيا على تطبيع علاقاتها مع دمشق، فبعد نجاحها بعقد سلسلة اتفاقيات مع الجانب العراقي، فيما يتعلّق بمكافحة حزب العمّال الكردستاني، وشنّها عمليات برية حتى السليمانية في داخل العراق، سعت أنقرة إلى جلب النظام السوري، الفاقد لمقوّمات السيادة والبقاء كلّها، لوضعه تحت عباءتها، ونزع شرعية منه في بقاء قواتها في الشمال السوري، وتحقيق تعاون مشترك مع قوات النظام، أمني واستخباراتي، في قتال "قسد" وطردها من شريطها الحدودي، عبر الاستناد إلى اتفاقية أضنة 1988، وتعديلها لتسمح لها التوغلّ في الشمال السوري لتحقيق المنطقة الآمنة برضا الأسد، إضافةً إلى رغبة تركيا في فتح الطرق التجارية لإنعاش حركة الاقتصاد، وتوفير بيئة آمنة لعودة اللاجئين السوريين، بعد تهيئة الظروف المناسبة بالتعاون مع الأسد، ووضع قدم لها في ملفّ الإعمار للشركات التركية، وقد كان فتح معبر أبو الزندين، إلى جانب معبر كسب، والتلميح بفتح معبر سراقب، بوادر حسن نيّة من تركيا. وكانت روسيا لاعباً مؤثّراً في تحقيق رغبات أنقرة بناءً على جملة المصالح المشتركة مع تركيا في ملفّات تتعدّى الجغرافية السورية. العائق الوحيد لما سبق كلّه كانت إيران، التي فرضت نفسها رقماً صعباً في سورية لأنها الطرف الأكثر فعّالية من خلال مصادرتها القرار السوري، وتوغّلها داخل مؤسّساته الأمنية والاقتصادية والمالية.

المعادلات المعقدة في سورية، وحالة التداخل بين مصالح اللاعبين، تعرّضت لصدمة بعد الزلزال السياسي الذي جاء مع "طوفان الأقصى"، واستلام إسرائيل بقيادة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو دفّة القيادة في كامل الشرق الأوسط، وتحت غطاء ودعم من قبل الديمقراطيين الأميركيين، إذ جرت تغييرات في حسابات اللاعبين بعد تعرّض مصالحهم لجملة من المهددات والأخطار. روسيا وتركيا كانتا الأكثر استشعاراً بطبيعة التغييرات المقبلة إلى المنطقة، لا سيّما بعد توسيع رقعة الحرب لتطاول لبنان وسورية، وإصرار إسرائيل على تغيير شكل الشرق الأوسط بما يتناسب مع محدّداتها الأمنية الجديدة، ومشاريعها الاستعمارية. الحدث الثاني، الذي سرّع تقييم حسابات روسيا وتركيا، هو فوز دونالد ترامب، وعودته قريباً إلى البيت الأبيض.

كان الرئيس التركي أوّل من هنّأ ترامب بفوزه عبر مكالمة هاتفية، مذكّراً ترامب بمخاوف أنقرة الأمنية من مهدّدات "قسد"، ومن انسحاب القوات الأميركية من شرق سورية من دون التنسيق معها، وبملفّ المنطقة الآمنة التي رُسِمت ملامحها الأولى في حقبة ترامب الأولى. في حقيقة الأمر تتطلّع تركيا بإيجابية لمجيء ترامب، وتعتقد أنّه رئيس يمكن التفاهم وعقد صفقات معه، مقارنةً بتجربتها السالبة مع نظيره جو بايدن. لأجل ذلك رفعت أنقرة سقف أهدافها قبل وصول ترامب، وبدأت بالتمهيد وتهيئة الأجواء لها، عبر التودّد للجمهوريين، وتطمح لأن يكون الانسحاب الأميركي المتوقّع في شرق سورية بالتنسبق معها قاطعاً الطريق على أذرع إيران و"قسد" لملئ الفراغ. كما تتعطّش لعقد صفقة أخرى مع إدارة ترامب في استكمال المنطقة الآمنة بعمق 30 – 40 كلم، ونزع مناطق تل رفعت، وعين العرب (كوباني) من "قسد"، وتريد أن يحدث ذلك بالتعاون مع النظام السوري عبر مسار التطبيع، بدلاً من فرض الأمر عليه بالقوة. وتعتقد أنقرة أنّ النظام السوري بعد إضعاف إيران، وذراعها في لبنان حزب الله، ومجيء دونالد ترامب إلى سُدّة البيت الأبيض، ستكون خياراته شبه صفرية، خصوصاً بعد تعيين ترامب مارك روبيو، صاحب المواقف الحازمة ضدّ النظام السوري، وزيراً للخارجية.

مع ترامب ترى أنقرة أن موسم جني الثمار قد اقترب، وتريد تأمين كامل مصالحها في سورية، سلماً أو بالقوة

ما سبق كلّه يضعنا أمام ملامح استراتيجية تركيا الجديدة في سورية، وإن بدت أهدافها بسقف مرتفع، إلّا أنها ترى أن موسم جني الثمار قد اقترب، وتريد تأمين كامل مصالحها في سورية، سلماً أو بالقوة، بعد تأكّدها من مشروع خبيث تقوده إسرائيل في المنطقة، يبدأ بتفتيت سورية إلى أقاليم عرقية، وقد لا ينتهي بتهديد عمق الأناضول، وتأليب الأكراد في جنوب تركيا، بعد تصريحات خطيرة لوزير إسرائيلي أخيراً وصف فيها الأقلّيات حلفاءَ حقيقيين لإسرائيل، في الإشارة إلى استمرار دعم إسرائيل الأكراد في سورية ورقةَ ابتزاز ضدّ تركيا.

تبدو المهمّة صعبةً أمام تركيا بالنظر لمسار الصعود والنزول في علاقاتها مع الولايات المتحدة، فهل ستستفيد من دروس الماضي لتحقيق أهدافها في حاضر ومستقبل المنطقة، وتفرض نفسها لاعباً في الساحة الدولية، وضمن النظام الدولي الجديد، أم أنّ ترامب قد يُفاجئها بفخاخ سياسية غير متوقّعة وغير محسوبة؟

كلام وزير الدفاع التركي غولر عن الجيش السوري الحرّ، لا يخرج من التفسير السابق في رغبة أنقرة بدمجه في قوات النظام، ضمن مسار تطبيع العلاقات، وهذا الكلام أكّده موفد أنقرة في جولة أستانة أخيراً، أحمد طعمة، حين استفاض كثيراً في الكلام عن فوائد التطبيع بين أنقرة ودمشق، متجاهلاً دماء السوريين وتضحياتهم.