تسرّع أميركي ألهب الوضع في اليمن
ما إن رفعت واشنطن جماعة الحوثيين في اليمن (أنصار الله تيمنا بحزب الله في لبنان) من قائمة الإرهاب في يوم 16 فبراير/ شباط الماضي، مع الإبقاء على ثلاثة من قادة الجماعة على القائمة، حتى انفجرت موجة عنفٍ واسعةٍ وجديدةٍ في اليمن، كانت تعز ومأرب مسرحا لها، مع توجيه طائرات إيرانية مسيّرة في حوزة الحوثيين ضرباتٍ لأهداف سعودية متتالية، وإسقاط دفاعات سعودية عديدا منها، وما زال نطاق هذه الموجة على اتساعه. وقد فسّر الإجراء الأميركي في واشنطن أنه لضمان إيصال المساعدات الإنسانية للمنكوبين في اليمن، وترافق مع صدور بيان عن ناطق في وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، قال فيه "إن الولايات المتحدة تحث الحوثيين على وقف الزحف نحو مأرب، ووقف جميع الأعمال العسكرية، والعودة إلى المفاوضات". وأضاف إن "هجوم الحوثيين على مأرب هو عمل جماعة غير ملتزمة بالسلام وبإنهاء الحرب التي ابتلي بها الشعب اليمني". وكان الرئيس جو بايدن قد ذكر، في حملته الانتخابية، أنه سيرفع الحوثيين من قائمة الإرهاب، وقد جاء قرار منتصف فبراير ترجمة لذلك الوعد الانتخابي.
"فتح مكة" حلم إيراني، جرى التعبير عنه، عبر قيام بعثات الحج الإيرانية بحج سياسي، مثل تسيير التظاهرات وإثارة فوضى عنيفة في صفوف الحجيج أعواما مديدة
ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الموقف من الحوثيين يتساوق مع التزام الإدارة الجديدة في واشنطن بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، بما جعل قرار رفع الجماعة من قائمة الإرهاب موجّهاً إلى طهران أيضا، وذلك كبادرة إيجابية من الإدارة الديمقراطية. وقد اتسم سلوك الحوثيين منذ ذاك بالتصعيد، وعَكَس طريقة إيرانية تنحو إلى المسارعة باستثمار الفرص أو ما تعتبرها فرصا سياسية وعسكرية، لتحقيق أكبر مكاسب سياسية وعسكرية في أقصر وقت ممكن. هكذا تمت قراءة القرار الأميركي، إيرانيا ولدى الأتباع الحوثيين، باعتباره يحمل اعترافاً بهؤلاء، وينطوي على اعتراف بجملة الأمر الواقع القائم، فإذا ما قرئ هذا القرار معطوفا على مواقف للإدارة الديمقراطية تكشف العزم على إنهاء الحرب في اليمن، وتومئ إلى فجواتٍ في تقدير الموقف بين واشنطن والرياض، فقد حمل ذلك طهران وأدواتها في اليمن على الجنوح إلى التصعيد، وطرح شروط سياسية على أية مفاوضات مزمعة مستقبلا، وتنعقد هذه الشروط على منح الحوثيين مكاسب كبيرة مكافأة لهم على وقف المسار السلمي للتغيير في اليمن، عقب موجة الربيع العربي في هذا البلد وطرح المبادرة الخليجية للحل بين الفرقاء، وجنوحهم إلى الانقلاب على مختلف المكونات الحزبية والاجتماعية، والسعي إلى السيطرة العسكرية على الشمال، وعلى ما يتيسر من مناطق الجنوب، مع تهديد الملاحة في مضيق هرمز وباب المندب على البحر الأحمر والتوجّه إلى منح إيران سلطة التحكم بهما. وصولاً إلى تهديد السعودية، بالتنكيل بمكونات قبلية يمنية ذات صلات قديمة مع الرياض، وانتهاء بالتلويح بـ"فتح مكة"، وهو حلم إيراني، جرى التعبير عنه، عبر قيام بعثات الحج الإيرانية بحج سياسي، مثل تسيير التظاهرات وإثارة فوضى عنيفة في صفوف الحجيج أعواما مديدة، مترافقا مع دعوات إيرانية إلى إدارة إسلامية متعدّدة للأماكن المقدسة.
بالنظر إلى مسار التطورات أخيراً يتبين أن التسرّع كان سمة القرار الأميركي حيال جماعة لا تتورّع عن التنكيل بالمدنيين
وبالنظر إلى مسار التطورات خلال الأسابيع الستة الماضية، وما اتسمت به من تصعيد حوثي ورفض للعودة الى المفاوضات، ووضع شروط المنتصر (غير المنتصر في الواقع)، يتبين أن التسرّع كان سمة القرار الأميركي، حيال جماعةٍ لا تتورّع عن التنكيل بالمدنيين بمختلف الأشكال، جديدها أخيرا تدمير مركز للمهاجرين في صنعاء على رؤوس القاطنين فيه، ما أدّى إلى مصرع 45 مهاجرا. وقد كان في وسع الإدارة الديمقراطية إعلان التزامها بالوعود الانتخابية برفع الجماعة عن قائمة الإرهاب، مع التوضيح أن ترجمة هذا الالتزام مشروطة بعودة الحوثيين إلى المفاوضات، والإفراج عن المعتقلين، والتعاون التام مع مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، وتحييد المدنيين، وضمان وصول المساعدات الإنسانية، وعدم وضع اليد عليها، إلى غير ذلك من ضمانات تجعل رفع الجماعة من قائمة الإرهاب مشروطا بتغير سلوك الانقلابيين، وتغيير رؤيتهم للحل، بموازاة حمل واشنطن الطرف الآخر (التحالف العربي) على الاستعداد لوقف إطلاق النار، وتجنيب المدنيين مخاطر الصراع والالتزام بالعودة إلى المفاوضات. وبدلاً من اعتماد هذه المقاربة التي تجعل القرار الأميركي ذا وظيفة واضحة وإلزامية بإطفاء عناصر الصراع تدريجيا، فقد سلكت إدارة بايدن سلوك من يبادر إلى تقديم هدية مجانية، قبل الخوض في أي شيء يتعلق بالصراع في اليمن، وهو ما انعكس تصلّباً في المواقف الإيرانية تجاه العودة المزمعة إلى الاتفاق النووي، فقد سعت طهران وما زالت إلى رفع العقوبات مسبقا عنها، علماً أن هذا الموضوع جزء من المفاوضات، بل إنها أخذت تتمنع عن قبول فكرة التفاوض نفسها، مع أن التفاوض ظل هدفا عزيزا لطهران على مدار السنوات الماضية، وتلك بعض مفاعيل القرار الخاطئ في توقيته، وفي تسويغ اتخاذه برفع الجماعة عن قائمة الإرهاب.
بموازاة ذلك، وفي هذه الأجواء بالذات، تقدّمت الصين لعقد اتفاقها الاستراتيجي مع إيران 25 عاما (خطوطه تم رسمها حين زار الرئيس الصيني تشي جين بينغ طهران في يناير/ كانون الثاني 2016) شاملا التزود بالنفط الإيراني بأسعار مخفضة، واستثمارات مختارة في مجالات حيوية عدة بقيمة 400 مليار دولار، وتعزيز قدرات الجيش الإيراني على مختلف المستويات، وقد لا تقل البنود غير المنشورة أهمية عن تلك المعلنة. واللافت في مواقف إدارة بايدن إبداء التصلب حتى تاريخه مع دولة كبرى مثل الصين، مع إرسال إشارات تنبئ بحسن النيات مع دولة إقليمية توسعية مثل إيران. وهكذا أسهم التصلب المفرط نحو بكين، واللين غير المبرر مع طهران، إلى إعلان هذا التلاقي الاستراتيجي بين بكين وطهران، علماً أن تاريخ التقارب والتعاون بين العاصمتين ليس حديث العهد، إذ تتولى الصين (مع روسيا) مهمة صد القرارات الدولية في مجلس الأمن بحق طهران، أو محاولة تفريغها من أثرها الرادع. وغني عن القول إن التوسع الإيراني في منطقتنا لا يؤرق الصين في شيء.