تشريعيات الجزائر .. ملاحظات أوّلية
انتهت الانتخابات التشريعية في الجزائر، الأولى بعد حراك 2019، إلى نتائج أوّلية مهمّة جدّا، يمكن اعتبارها رسائل علنية وأخرى مبطنة من السُّلطة بشأن نيّتها، في المستقبل، لترتيبٍ فريدٍ للخريطة السّياسية للبلاد وبتسيير اختارت أن تُسيّرها وحدها في محافظةٍ، شبه كاملة، على سلكويات السُّلطة وممارساتها منذ الاستقلال في 1962. تتعلّق الملاحظات الأولى بالانتخابات، تنظيما ومشاركة، ثم تعرّج المقالة على النّتائج الأوّلية التي رشّحت من قاعات الفرز وقيادات القوائم المشاركة، خصوصا الحزبية منها، والقراءة المحتملة للخريطة السّياسية الجديدة/ القديمة، وصولا، في الأخير، إلى رؤيةٍ في توجُّهات مستقبلية للسّاحة السّياسية بعد هذه التشريعيات.
بداية، يمكن تحيّة المشاركين في الانتخابات ممّن حاولوا تجربة إصلاح النّظام من الدّاخل بتصديق أنّ النُّخبة، تجديدا وتدويرا، ستنجح باعتبارها عملية تغييرٍ يتضمّنها شعار جزائر أخرى، غير التي سادت عقودا، وأنتجت الفشل السياسي، بكل أبعاده، وهي شجاعةٌ بدت من خلال مواجهتهم عراقيل توقيع الاستمارات، والخضوع للتحقيق في أهليتهم للترشّح، وصولا إلى إسماع صوتهم للجزائريين، في ظلّ ماكيناتٍ سياسية تعرف الساحة السياسية، ولها تجربة في التسويق السياسي بمقاربة الموالاة وضمان النّجاح في الحصول على مقاعد في الغرفة السفلى للبرلمان وفي ظلّ خطاب سياسي اتسم بالتردّي، شكلا ومضمونا، أتاح للجزائريين الاطّلاع على أنّ الهدف من الانتخابات هو استكمال بناء المؤسّسات، وليس تغييرها، تماما وبصفة كاملة.
مع تلك التّحية، يحتاج هؤلاء إلى تفكير مليٍّ في مقارباتٍ أخرى أكثر نجاعةً، مستقبلا، للنّجاح في خطواتهم اللاّحقة، وإن في هيكلةٍ سياسيةٍ مبتكرة وإبداع في التّسويق السياسي، مع الأخذ في الاعتبار أنّ العراقيل والصّعوبات ستزداد، في حجمها، مع اعتقاد السُّلطة أنّها قد مكّنت نفسها ونخبتها في المؤسّسات والفعل السياسي، وفق ما تراه وتدركه، كما سيحتاج هؤلاء إلى الاستمرار في خطاب النّقد للواقع الاقتصادي والاجتماعي في مناطق ترشّحهم وإبراز نقائص الخدمات وزيف إنجاز المشاريع وهدر المال العام، كما فعل كثيرون في وسائل الإعلام البديل، وكشفوا، من خلال محتوياتٍ جيدة، عن عوار مسار التّنمية، خصوصا في ما أصبح يعرف، في لغة الخطاب السّياسي الرّسمي، بـ"مناطق الظل"، مناطق غياب التنمية، الخدمات والفساد، على مختلف الأصعدة.
أعلنت السُّلطة الوطنية المستقلّة لتنظيم الانتخابات عن عدد الناخبين وعدد الأوراق الملغاة، ليكون الرّقم النهائي أقرب إلى 20%، أي 1/5 الوعاء الانتخابي، ما يستدعي بعض الملاحظات، لعلّ أوّلها متصل باستقرار نسب المشاركة عند معدل حوالي 1/5 أو 1/4 الوعاء الانتخابي بين انتخابات الرئاسة في 2019، تعديل الدستور ثم التشريعيات، يضاف إلى ذلك أنّ السُّلطة تكون قد استقرّت على تقسيم الوعاء الانتخابي إلى ثلاثة أقسام: الأوّل منها مشارك ومنخرط في الفعل السّياسي، الثّاني يمكن اعتباره أغلبيةً صامتةً لا يُعرف لها اتّجاه سياسي، فيما يشير القسم الأخير إلى قطاع المقاطعين الذين يمكن العثور عليهم، غالبا، بين الحراكيين والمعارضة التي اعتادت على تبنّي خطاب رفض المسارات السياسية التي تشرف عليها السُّلطة.
الصّعوبات ستزداد، في حجمها لاحقا، خاصة مع اعتقاد السُّلطة أنّها قد مكّنت نفسها ونخبتها في المؤسّسات والفعل السياسي
تتعلّق الملاحظة الثّانية بانعدام وسائل يمكن أن تُقاس بها مؤشّرات الرأي العام، كما لا تتوفر الجزائر على مراكز سبر الرّأي لقياس اتجاهات المواطنين في الانتخابات، ما يعني أننا حتى مع استنتاج هذه النتائج، الا أن ذلك يستدعي التفكير في تخصّصات جامعية يتم، من خلالها، دراسة سوسيولوجيا الجزائر السياسي والانتخابي، ما كان سيساعد على استباق مواعيد الانتخابات من حيث الاستشراف، بل من حيث نجاعة تلك المواعيد التي قد تجري من دون أن تجسّد التّغيير أو يتمدّد نطاقُ المشاركة والانخراط السّياسي في المجتمع، ليكون ذلك منتجا، على صعيد التّعليم العالي، للحاجة إلى تخصّصات جديدة ستفتح الباب، واسعا، على الاحترافية السياسية، بدلا من محاولاتٍ لا تنتهي لبناء مؤسّسات، والدّعوة إلى الانخراط السّياسي لم تجد نفعا. وبقينا، على الدوام، بدون طبقة سياسية وبدون ناخبين، حقّا لا مجازا.
أما بخصوص المناصفة المفروضة بالقانون، بالنسبة للملاحظة الثالثة، وليس بالممارسة السياسية، فإنّ البرلمان الحالي لم ينتج إلا 34 نائبة، وفق النتائج المعلنة، بعيدا عن 120 نائبة في برلمان 2017، أي تأخّر إلى الرّبع، ما يعني أنّ الجزائر لم تتقدّم هذا الباب، أيضا، وهذا يعني أنّها في سبيل الحاجة إلى مراجعة كاملة للمسار الإصلاحي، مرّة أخرى، لإنتاج ممارسة سياسية مقبولة وفعّالة للمجتمع.
أمّا الملاحظة الأخيرة فهي التي ستجرّ إلى الحديث عن النّمط الانتخابي الجديد، أي نمط القائمة المفتوحة الذي أُريد له أن يكون بديلا عن نمطٍ كانت الأحزاب، أساسا، تلعب على أوتاره، لنشر لعبة شراء المقاعد، ولكن لم ينتج عن الأخذ به، في القانون العضوي الجديد للانتخابات، إلاّ العزوف، انتشار نمط التصويت القبلي أو العشائري/ العائلي، ثم، بالنسبة للفرز، تعقيد أخّر صدور النتائج، ما زاد من تكهنات أنّ ثمّة اتجاها لتسيير الانتخابات كما كان يجري، من قبل، في الانتخابات البرلمانية السّابقة. تلحق بالنمط الانتخابي الجديد قضية العتبة التي أقصت قوائم كثيرة وأفرزت فوزا لبعضهم في ولايات (محافظات) بأكملها، على غرار ولاية الجلفة التي أخذت جبهة التحرير كل مقاعدها، بفضل عدم تجاوز القوائم الحرة عتبة الـ5% التي أقرّها القانون العضوي الجديد للانتخابات لاحتساب الأصوات.
مساوئ كثيرة في المشهد الانتخابي، تدفع إلى التفكير في مشاريع يتعلم منها الجزائريون، بعضها متّصل بالقانون وبعضها الآخر متعلق بالتسويق السياسي
بالنّتيجة، نحن أمام مساوئ كثيرة في المشهد الانتخابي، تدفع إلى التفكير في مشاريع يتعلم منها الجزائريون، بعضها متّصل بالقانون وبعضها الآخر متعلق بالتسويق السياسي، فيما هناك أخرى لها صلة بدوران النخب وتجديدها. ويحتاج ذلك كله توافقا سيلي، حتما، دورات الاقتراع الثلاث التي عرفتها الجزائر منذ بدء حراك فبراير 2019، وأنتجت جميعها عزوفا، مقاطعة، عدمية ورفضا للآخر، سياسيا، حتى أضحى الكل لا يصغي للكل، والخصام سيّد الموقف، في حين أن الجزائر مقدمةٌ على تحدّياتٍ، سيكون الجميع مسؤولا عن رفعها، لطالما كتب صاحب هذه السطور بشأنها مقالات في "العربي الجديد".
الإشكالية الكبرى أن الجميع يتنصّل من تبعات الموقف الذي وصلت الجزائر إليه، حيث إننا لم نعد قادرين، حقا، على إخفاء الفشل في إقناع الجزائريين بالعودة إلى الفعل السّياسي بعد موجة التصحير التي مارسها الرّئيس السّابق، عبد العزيز بوتفليقة، من خلال الإبعاد والإقصاء لكل من يعارض برنامجه أو يبدي مخالفة لنهجه ونظامه، طوال أربع عهدات (ولايات) رئاسية (1999 - 2014)، ذلك أنّ المشهد السياسي عاد بالجزائر القهقرى إلى نقطة الانطلاق نفسها، في 1999، العام الذي فاز فيه بوتفليقة في أوّل عهدة له، أي زمن التّحالف الرّئاسي بعد ظهور نتائج تشريعيات يونيو/ حزيران 2021، وبروز برلمان بأغلبية متكوّنة من جبهة التّحرير، والتّجمع الوطني، وحركة مجتمع السّلم، و"كأنك يا بوزيد ما غزيت"، كما يقول أخواننا المشارقة.
لا تغيير، مع أنّ السلطة تحدّثت منذ بدء مسار الانتخابات، في 2019، عن أنها اختارت التحرّر من التوازنات نفسها
هل تستحق الجزائر أن تبقى في الأزمة السياسية نفسها لا تبارحها؟ يحتاج الجواب تشريح المسبّبات التي تقف وراء وصول الجزائر إلى ما هي عليه من العودة إلى توازناتٍ سياسيةٍ، من دون تغيير، مع أنّ السُّلطة تحدّثت، منذ بدء مسار الانتخابات، في 2019، أنها اختارت التّحرّر من التوازنات نفسها، حيث إنّ التعديل الدستوري (نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) أشار إلى نوعين من الحكومات، يمكن أن تفرزهما الانتخابات التشريعية، في أحدهما يمكن أن تتشكّل من أغلبية تفـوز، لا تكون من مناصري برنامج الرّئيس، وفي الآخر تكون مناصرة له، وتتشكّل ببرنامجه، وهو ما سيحصل، حتما، على الرغم من أنّ الرّئيس، نفسه، خاض المعترك الرّئاسي الأخير من دون خلفية سياسية، وسعى، منذ 2019، إلى الاعتماد على المجتمع المدني، بعيدا عن التحالف الرئاسي القديم والطبقة السياسية التي أفرزتها الممارسات السياسية السّابقة.
ماذا سيفعل الرّئيس في هذه الحالة؟ وكيف سيعتمد على التّحالف المشكّل من الأحزاب الفائزة (حركة مجتمع السلم، جبهة التحرير، التجمع الديمقراطي) لبناء الفريق الحكومي؟ هل سيعتمد على نتائج التشريعيات لإطلاق مسار توافق/ حوار مع الأغلبية الصامتة والمقاطعين؟ كلها أسئلة تُطرح، وتحتاج أن تفكّر الطّبقة السّياسية في إيجاد أجوبةٍ لها لهندسة اتجاه سياسي توافقي حتمي وضروري لرفع التحدّيات المقبلة، خصوصا الاقتصادية منها (أزمة اقتصادية من جرّاء الجائحـة وانخفاض إيرادات الدولة من العملة الصعبة بسبب انخفاض أسعار النفط والحاجة إلى سعرٍ يفوق مائة دولار، في المتوسط، لتحقيق التوازنات المالية) والاستراتيجية (انسحاب فرنسا من عملية برهان من الساحل وهشاشة في الجوار).