تشقق جدار الصمت الأميركي
تجرّأ عضو الكونغرس الجمهوري، بول فيندلي، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ونشر كتابه الشهير "من يجرؤ على الكلام: الشعب والمؤسسات في مواجهة اللوبي الإسرائيلي"، عرض في طياته مظاهر سيطرة جماعات الضغط الإسرائيلية على السلطتين، التشريعية والتنفيذية، في واشنطن، ونفوذ أنصار إسرائيل في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الأميركية. وأهم ما كشفه فيندلي (شغل مقعد ولاية إلينوي 22 عامًا) هول الترهيب الذي يتعرّض له كل من يجرؤ على انتقاد إسرائيل، أو التحدث علنًا ضد سياساتها مهما بلغت عدوانية. تحضر شجاعة فيندلي مجدّداً في شجاعة خليفته عضوة الكونغرس التقدّمية، ماري نيومان، من إلينوي، فقد رفعت صوتها عاليا مطالبة بالعدالة والحرية للشعب الفلسطيني، "أسوة بما يطالب به آخرون للشعب الإسرائيلي". ومن يتابع مداخلات رشيدة طليب من ميشيغن، وكوري بوش من ميسوري، وإسكندرية أوكاسيو كورتيز من نيويورك، وإلهان عمر من مينيسوتا، وأندريه كارسون من إنديانا، بوبي راش من إلينوي، وبيتي ماكولوم من مينيسوتا، يلمس أن شيئاً ما تغيّر منذ تجرّأ بول فيندلي على الكلام.
صحيحٌ أن الكونغرس، وغيره من مؤسسات الدولة الأميركية، لم تتحرّر تماماً من سطوة جماعات الضغط الصهيونية. ولكن لا ينبغي الاستهانة بما يجري في المشهد السياسي الأميركي خصوصا، والغربي عموما، من تحولاتٍ، لم يعد من الممكن معها نكران وجود الشعب الفلسطيني، أو صم الآذان عن صرخات ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة منذ 73 سنة. وتتجاوب هذه التحولات مع تغيراتٍ أهم على مستوى الرأي العام الأميركي، فقد أظهر تحديث لاستطلاع غالوب السنوي، الخاص بسبر آراء الأميركيين بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أن نسبة المتعاطفين مع الفلسطينيين تجاوزت 25%، وارتفعت نسبة الرغبة في ممارسة ضغط على إسرائيل إلى 34%.
ويمكن تفسير هذه التشققات في جدار الصمت الغربي بعوامل عدة، إلى جانب الصمود الفلسطيني، إذ لم يعد الرأي العام الغربي قادراً أخلاقياً على الاستمرار في قبول ما تمارسه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، من سياساتٍ عدوانيةٍ واستيطانية. كما أن صنّاع القرار الأوروبي فقدوا القدرة على تبرير عدوانية إسرائيل التي تجاوزت كل المواثيق الإنسانية والقيم الغربية. أضف إلى ذلك فشل الدعاية الصهيونية وخطاباتها التقليدية في استمالة الجيل الشاب الغربي الأقل تأثراً بالخطاب الديني، وأكثر ميلاً إلى العلمانية الليبرالية مقارنةً بأجداده. كما أن هذا الجيل أكثر تحرّراً من الابتزاز بـ "عقدة الذنب" أو "عقدة الهولوكوست"، ولا يشعر بالمسؤولية المباشرة عن أحداثٍ لم يعاصرها، وغير مسؤول عنها. وفي المقابل، يبدو هذا الجيل أقرب إلى التفاعل مع الأحداث الراهنة، التي يتابعها على الهواء مباشرةً، ويرى فيها آلة الحرب الإسرائيلية المحرّمة دولياً، والمموّلة من ضرائبه، تُوغل في دم الأبرياء المدنيين في مواجهة غير متكافئة. وباتت شريحةٌ واسعةٌ من الرأي العام الغربي ترى في إسرائيل عبئاً اقتصادياً، مفروض عليه تمويلها مقابل التقشّف في حاجاته الأساسية.
كما حرّرت وسائط الإعلام الرقمي ومنصّات الإعلام الاجتماعي المتلقي الغربي، خصوصا الشباب، من هيمنة وسائل الإعلام التقليدية التي تديرها رؤوس الأموال الموالية لإسرائيل، فقد دأبت وسائل الإعلام الغربية التقليدية على غسل أدمغة الرأي العام بـ "الرواية الإسرائيلية" وإهمال "الرواية الفلسطينية" بكل ما فيها من تشريد واحتلال وظلم وضحايا. أما اليوم، فقد تحرّر المتلقي الغربي من هيمنة الشبكات الإعلامية الكبرى واحتكارها، مثل "بي بي سي" و"فوكس نيوز" و"سكاي" و" سي إن إن"، وبات يستقبل الأخبار والصور مباشرة على أجهزة الكمبيوتر والهاتف النقال من دون قص أو تشويه.
أضف إلى ذلك التغيرات الجارية في تركيبة المجتمعات الغربية، من قبيل التوسّع الكمي للقاعدة البشرية للجاليات العربية والإسلامية في الدول الغربية، وانخراط الجيل الجديد من أبنائهم في الحياة السياسية والإعلامية. وتراجع شعبية الأحزاب السياسية الأيديولوجية في مقابل تقدّم منظمات المجتمع المدني التي تبدو أقلّ عرضةً للتأثر بإملاءات اللوبي الداعم لإسرائيل أو ضغوطه.