"تصفير مشاكل" داخلية لتركيا
الجديد الذي أظهرته الانتخابات الرئاسية والتشريعية في تركيا ليس جديداً حقّاً. لا انقلابات دراماتيكية في مركّبات الهوية السياسية لهذا البلد الشاسع والمعقّد ديمغرافياً. الأكراد بغالبيتهم انتخبوا نوابهم القوميين وصوّتوا رئاسياً ضد رجب طيب أردوغان أكثر مما صوّتوا لكمال كلجدار أوغلو المتحالف مع قوميين وفاشيين يتمنّون الموت صبحاً ومساءً للأكراد. العلويون كذلك حافظوا على تراثهم الكمالي تصويتاً لحزب أتاتورك، "الشعب الجمهوري". سكان ولايات عمق الأناضول والبحر الأسود شمالاً وجزء من الجنوب ظلّوا أوفياء لـ"تحالف الجمهور"، أي لأردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" ولحليفه اليميني المتطرّف دولت بهشلي. سكان المدن الثلاث الكبرى (إسطنبول وأنقرة وإزمير) فضلوا مرّة جديدة ما يمثله العلمانيون. فاز أردوغان في 52 ولاية في مقابل 29 لكلجدار أوغلو، وهو ما كان يحصل تقريباً في الدورات الانتخابية الماضية. تعكس نسبة المشاركة المرتفعة (85.71%) حدّة الانقسام العمودي المشابه لما أظهرته انتخابات عامة سابقة في تركيا استحقت لقب "التاريخية"، كحال انتخابات 12 يونيو/ حزيران 2011 التي عادل فيها أردوغان وحزبه رقماً قياسياً كان مسجّلاً باسم عدنان مندريس وحزبه "الديمقراطي" قبل نصف قرن، لجهة الفوز في ثلاثة استحقاقات انتخابية متتالية. حزب العدالة والتنمية انخفضت شعبيته مع 35.58% من الأصوات في الانتخابات التشريعية، مقارنة مع 42.56% عام 2018. لكن النظام الرئاسي سيعيش خمس سنوات إضافية، بما أن الغالبية البرلمانية متوفّرة للرئيس (322 مقعداً من أصل 600)، وسيغادر أردوغان منصبه في 2028 عن 74 عاماً، أي أصغر بعام من عمر كمال كلجدار أوغلو اليوم، هو الذي عاب عليه كثيرون تمسكه المرضيّ بمنصبه الحزبي وبصفته مرشّحاً مزمناً ضد أردوغان رغم تقدمه في السن. "مرض" كلجدار أوغلو، زعيم الحزب العضو في الأممية الاشتراكية، كان أحد أعراضه إدمانه طوال أشهر على إطلاق التصريحات العنصرية والتقاط الصور مع فاشيي تركيا بإشارة الذئب التي يرسمونها بأصابع أيديهم بعدما تحالف مع قياداتهم من ميرال أكشنر إلى أوميت أوزداغ، بجرعات زائدة من التحريض على الأجانب الفقراء (وهو ما كان حاصلاً عند معسكرَي الانتخابات).
هذا عبور عَرَضي على ما تقوله بعض أرقام الانتخابات ومعطياتها. الأصعب يكمن في مكان آخر، في تمنّي نيل اعتراف بأنّ من العسير أن تصعد تركيا عالياً في درجات السلم الأهلي والتطوّر والديمقراطية والانفتاح ما لم تحلّ أزمتها الوجودية مع الأكراد. يصعب أن تتجاوز تركيا نواقص المواطنة والمساواة فيها، قبل أن تستنفر مؤسّسات حكمها مخيّلتها وأفكارها الجريئة لإبرام صفقة تاريخية، تعني حُكماً جرأة تقديم التنازلات المتبادلة وضرورة اختراع نظرية كالتي ابتدعها أحمد داود أوغلو للسياسة الخارجية، "تصفير المشاكل". حاول داود أوغلو تطوير نسخة محلية من هذا "التصفير" مع الأكراد، وهو ما كان سينعكس، بطبيعة الحال، على العلاقة بأكراد البلدان المجاورة. قبل 12 عاماً، جرت لقاءات عديدة وعقدت مؤتمرات من ديار بكر إلى إسطنبول برعاية داود أوغلو وحضوره. بقية القصة معروفة، غادر داود أوغلو السلطة في 2016 ليصبح معارضاً راديكالياً لأردوغان. قبل ذلك، عرفت تركيا جولاتٍ في محاولة إرساء تلك المصالحة. زيارة الرئيس عبد الله غول إلى ديار بكر في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2010 كانت صفحة في ذلك الكتاب، كذلك اجتماعه مع صقر القوميين الأكراد حينها، رئيس بلدية ديار بكر، عثمان بيدمير. قبلها بعامين، في 2008، كسر غول التابو الأعظم، ونطق بثلاث كلماتٍ كانت محرّمة آنذاك: "إقليم كردستان العراق"، بدل المصطلح الرسمي الإلزامي "حكومة إقليم شمال العراق". كان مشروعاً واعداً في إطار "خطة الانفتاح الديمقراطي". واكبها حزب العمال الكردستاني بهدنات طويلة حتى صدر حينها قرار بالتفاوض مع أوجلان في سجنه. كل ذلك عمره 10 و12 عاماً فقط. فشل كل شيء لأسباب عديدة أبرزها قناعة رجب طيب أردوغان بأنه ليس بحاجة لمثل هذه المصالحة التاريخية، وأن لا شيء اسمه "قضية كردية".
كلما علا صراخ القوميات والشوفينية والشعبوية خفت صوت العقل، من دون أن تخبو الحقيقة: تركيا المتصالحة مع أكرادها هي تركيا ديمقراطية أكثر وتركيا أجمل لمواطنيها وللمقيمين فيها ولجيرانها وللعالم.