"تصنيع القبول" في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي
تزدحم السرديّتان، الإسرائيليّة والغربية المؤيدة لها، بالمصطلحات الزائفة التي تأخذ المتابعين إلى اعتقادٍ مُضلّل يُحرّف المعنى ويحصره خلف رواية "هندسة القبول" التي يُراد فيها تضليل السياسيين واستدراج الإعلاميين وتسطيح الوعي الغربي، وهذا ما يحدث فعلاً منذ منتصف القرن الماضي.
ومنذ مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897 بدأ استخدام مصطلحات مضللة كـ "الوطن" و "الملاذ" و"الوطن القومي"، والأخير يُقصد به في الخفاء "الدولة اليهودية" وهو الذي شجّع اليهود على الانتقال من أوروبا إلى فلسطين، وبقيت هذه المصطلحات بديلاً استراتيجياً لمصطلح "إقامة الدولة" الذي ظهر مع أربعينيات القرن العشرين.
وفي وعد بلفور، تمّت الاشارة إلى الفلسطينيين باعتبارهم "مجتمعات غير يهودية" رغم أنهم الأغلبية الساحقة في فلسطين، باعتبارهم جماعة تعيش في أرضٍ ليست لهم، مستندين إلى سردية متخيّلة تتضمّن مصطلحات "استرداد" أو "استعادة الأرض" والمنبثقة من ادّعاءات قديمة عن حقّ اليهود بأرض فلسطين.
وصوّرت الحركة الصهيونية الفلسطينيين في خطاباتهم بمصطلحات "بدائيون " و"مخادعون"، و"ينكرون الحقّ اليهودي"، واستخدام مصطلحات "السكان الأصليين" و"الملكية التاريخية" عند الحديث عن تاريخ اليهود؛ باعتبارهم عاشوا دائماً فيها، ومصطلح "معادٍ للساميّة" و"محرّض على الإرهاب" و"متعاطف مع الإرهابيين"، لكل مَن يعترض على إسرائيل أو لكل مَن يرفض بعض تفاصيل ذائعة عن "محرقة اليهود" كما أنهم يعتبرون مصطلح انتفاضة مسمّىً يشجّع على "الإبادة الجماعية لليهود".
أنتجت الصهيونية مصطلحاتٍ أيديولوجية وقانونية عديدة تستحضر المطالبات القديمة بالأرض، مثل "قانون العودة" إضافة إلى وصف عملية طرد ثلاثة أرباع السكان الفلسطينيين من بلادهم في الفترة 1948 - 1949 المعروفة باسم النكبة، بأنه "تحرير" كما أطلقوا على الأراضي المحتلّة مصطلح "مناطق متنازع عليها"، ووصفوا فلسطينيي 48 داخل إسرائيل بـ"التهديد الديمغرافي" أما العائدون من مخيمات اللجوء إلى الأراضي التي احتلتها إسرائيل يسمّونهم "متسللين". ومع حرب 1967 بدأ الخطاب السياسي يتغيّر من الحق في العيش في فلسطين إلى مصطلح "حقّ إسرائيل في الوجود" .
المصطلحات الإسرائيلية المزيّفة متداولةً في الصحافة الدوليّة وتسلّلت إلى الخطاب الغربي ككل
وسرعان ما أصبحت هذه المصطلحات المزيّفة متداولةً في الصحافة الدوليّة، ثم شعبياً وسياسياً، وتسلّلت إلى الخطاب الغربي ككل، وهي أحد الأسباب الرئيسية التي شكّلت صورةً ذهنيةً عن حق إسرائيل، وأصدر قسم التعليم في الوكالة اليهودية دليل استخدام المصطلحات الذي تم تدريسه للطلبة للدفاع عن إسرائيل، وذلك لبناء جيلٍ صهيوني يفهم المصطلحات ويستخدمها في الدفاع عن إسرائيل في الجامعات الأميركية، وسرعان ما أصبح دليل المصطلحات هذا لسان حال العلاقات العامة الإسرائيلية.
ورغم البروتوكول الأول لاتفاقية جنيف، الذي يتضمّن حقّ المدنيين في النزاعات المسلحة بالمقاومة والنضال ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي وحقّهم في تقرير المصير، إلا أن أحداث 11 سبتمبر (2001) في الولايات المتحدة ساعدت إسرائيل في اطلاق مسمّى "محاربة الإرهاب" على الإعمال الإجراميّة التي تقوم بها ضد الشعب الفلسطيني وصولاً إلى وصف المقاومة بتنظيم داعش أو القاعدة .
ولتحريف المعاني قالت رئيسة وزراء إسرائيل السابقة، غولدا مائير، يوماً: "لن أُسامح الفلسطينيين؛ لأنهم يُجبرون جنودنا على قتلهم"، وقبلها، قال رئيس منظمة إرغون وهي منظمّة شبه عسكرية صهيونية، في مقالة كتبها عام 1923 : "في وسعنا أن نُخبر بما نشاء عن براءة أهدافنا، ونلطِّف الكلمات وندسّ العسل فيها لكي نجعلها مستساغة". وهذا ما كان عند مقتل الطفل محمد الدرّة، حيث قالت الرواية الإسرائيلية إنه "سقط في تقاطع نيران بين مسلحين فلسطينيين وإسرائيليين".
أما جدار الفصل العنصري الذي يطوق الضفة الغربية، ويقطّع القرى فيها، فيُطلق عليه مسمّى "سياج أمني" وتغضب إسرائيل من مصطلح الفصل العنصري وتعتبره "مثيرا للجدل"، كما ويتم وصف المستوطنين بمسمّى "سكّان" واحتلال غزة بـ "حصار"، و"معاداة السامية" تهمة جاهزة تلتصق بأي أحد يدعم الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك الحقّ حتى في الحياة.
تفسّر إسرائيل مصطلح "وقف إطلاق النار" بأنه يشجّع على الإرهاب، وتطلق مصطلح "دروع بشرية" عند الحديث عن الوفيات من الأطفال والمدنيين في غزّة
وأطلق قادة إسرائيل عبر التاريخ أوصافا للفلسطينيين جرى استخدامها في الإعلام الإسرائيلي، فتلك غولدا مائير قالت: لا يوجد شيء اسمه فلسطينيون. ... وقال رئيس الوزراء مناحيم بيغن عام 1982 : الفلسطينيون وحوش تمشي على قدمين. ... وقال رئيس الأركان رافائيل إيتان: جرى تخدير الفلسطينيين في زجاجة... ووصف الرئيس الإسرائيلي موشيه كاتساف الفلسطينيين بأنهم "أشخاص لا ينتمون إلى قارتنا بل في الواقع ينتمون إلى مجرّة مختلفة". أما شارون فقال: "لن يتحقق السلام لإسرائيل إلا من خلال السيطرة على أعداء الإنسانية". وأخيراً، في حرب غزّة الجارية 2023/ 2024 فقد وصف الإسرائيليون الفلسطينيين بأنهم وحوش، بل جرى وصف أمين عام الأمم المتحدة، غوتيريس، بأنه "يُبرّر الإرهاب" عندما طالب بوقف إطلاق النار في غزّة . ووصف عضو مجلس الحرب، بيني غانتس، الصحافيين في غزّة بأنهم إرهابيون ويجب قتلهم؛ لأنهم لم يتناولوا هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر بالطريقة التي تريدها إسرائيل، بينما وصفت لجنة حماية الصحافيين في نيويورك، اعتداء إسرائيل على الصحفيين في غزّة بأنه أخطر اعتداء على الصحافيين منذ بدأت اللجنة نشاطاتها 1992 حيث قتل 120 صحافيا حتى اللحظة، وكان سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، اتهم مجلس الأمن بأنه "التزم الصمت" لأنه لم يؤيّد الحرب على غزة.
ويطلقون مسمّى يهودا والسامرة بدلاً من الضفة الغربية المحتلة، والمخرّبين بدلاً من الفدائيين ولا يستخدمون مسمّى الشعب الفلسطيني باعتباره ليس شعباً، ويستخدمون مصطلح "العمليات الوقائية بدلاً من عمليات التوغّل والاقتحام للمدن الفلسطينية، ومصطلح "البلدات" بدلاً من المستوطنات، و "الإدارة المدنية" بدلاً من سلطات الاحتلال، و "أعمال هندسية" بدلًا من تجريف الأراضي الزراعية، و "خطوات أمنية" بدلًا من عمليات الانتقام والعقاب، و"عمليات إحباط موضعية" بدلًا من التصفية.
تعمل إسرائيل على تسويق عمليات الاغتيال والأخرى التي توجّهها ضد المدنيين في غزّة، بأنها عمليات بطوليّة يخاطر فيها جنودها بحياتهم
وفي اغتيال النشطاء الفلسطينيين، واستهداف المناطق السكنية في غزّة، يستخدم الإعلام الإسرائيلي مصطلحات محدّدة للدفاع عن هذه الأعمال كـ "القتل المستهدف" و"الدفاع الإيجابي" و"التصفية الموضعية" و"ضربات مختارة"، وتعمل إسرائيل على تسويق عمليات الاغتيال والأخرى التي توجّهها ضد المدنيين في غزّة، بأنها عمليات بطوليّة يخاطر فيها جنود الاحتلال بحياتهم من أجل منع الإرهاب و"الدفاع عن النفس"، وهو مصطلحٌ جرى استخدامُه في كل خطاب إعلامي أو سياسي أو قانوني منذ بداية الحرب، باعتباره حجّة تسمح لإسرائيل أن تقتل ما تشاء في غزّة، وخلال زيارات السياسيين إسرائيل، وفي أثناء مرافعتها في محكمة العدل الدولية في لاهاي وغيرها، كان مصطلح "حقّ إسرائيل في الدفاع عن وجودها" الأكثر ترويجاً في الخطاب الدولي، وساهم في كسب الرأي العام الغربي، عدا عن أن إسرائيل تفسّر مصطلح "وقف إطلاق النار" بأنه يشجّع على الإرهاب، ويطلق إعلامها مصطلح "دروع بشرية" عند الحديث عن الوفيات من الأطفال والمدنيين في غزّة.
إلى جانب المصطلحات، هناك بيئة معلوماتية مغلقة في الغرب تحاول الحدّ من نشر المعلومات الصحيحة بخصوص القضية الفلسطينية، يقوم على هذا الإغلاق وسائل الإعلام في أغلبها وشبكات التواصل الاجتماعي التي حدَّت من انتشار المعلومات التي تتحدّث عن فلسطين وغزّة والمقاومة، لكن هذا الإغلاق المعلوماتي جرى اختراقه بالصور والفيديوهات التي تَعرض حرب إبادة في غزّة، خصوصاً وسائل الإعلام المؤيدة للحقوق الفلسطينية، وأيضاً تطبيق تيك توك وتلغرام وغيرها من تطبيقاتٍ ساهمت في كسر حاجز تصنيع القبول الذي جعل العالم يقف مع إسرائيل سنوات طويلة.