تصويت العرب والمسلمين في أميركا: نعم هناك أسوأ
أعلن بعض العرب في الولايات المتحدة، خاصة في ولاية ميشيغان، عن دعمهم دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، لعدة أسباب، أهمها أن كاملا هاريس والإدارة الحالية شريكتان في حرب الإبادة الجارية في غزة؛ وأن فترة ترامب الرئاسية لم تشهد حروبا؛ وأنه لا أسوأ مما هو حادث الآن. للأسف، لا يدرك هؤلاء أن هذه الأسباب الثلاثة غير دقيقة، فليست الإدارة السابقة فقط هي الشريكة في العدوان الحالي، وإنما إدارة ترامب أيضا، بل والإدارات التي قبلها. قرار دعم دولة الاحتلال أميركي، يُنفّذه المسؤولون في البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون، أياً كانت هوياتهم الحزبية؛ لأسباب بسيطة، أهمها هيمنة اللوبي الصهيوني هناك، وسطوته على الحياة السياسية والانتخابات، وقيام دولة الاحتلال بدور وظيفي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ومن ثم من الصعب الفصل بين المشروعين، الصهيوني والأميركي، في الأساس.
منذ إدارة جون كيندي في ستينيات القرن العشرين، تعزّز كل إدارة أميركية جديدة دعمها دولة الاحتلال، بل و"تكافئها" في أعقاب كل اعتداء تقوم به على العرب، على نحو جعل الدعم الأميركي في حالة تعزيز دائم للأمام. وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك حالات اختلاف بين السياسيين الأميركيين والإسرائيليين، بل على العكس، فمنذ هاري ترومان في نهاية الأربعينيات هناك حالات من الغضب المتبادل، وما نُقل عن أن الرئيس الحالي جو بايدن يكيل لرئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، في السر عباراتٍ مشينة لن يكون الأخير. ويؤكد هذا الاختلاف حقيقة أن العلاقات المتينة استراتيجية ومؤسّسية، ولا تتأثر كثيرا بهويات الأشخاص المنتخبين، ولا بالاختلافات التي تظهر على المستويات الإجرائية والتكتيكية. هذا بجانب أن التاريخ القريب جدا أظهر حجم الدعم الذي قدّمه ترامب لدولة الاحتلال، ما عزّز من تجبّرها، وكذا حجم الكراهية والعنصرية الذي يكنّها للمسلمين، بل وللإسلام ذاته، ألم يقل يوماً إن الإسلام يكرهنا؟ ألم يحظر دخول المسلمين القادمين من عدّة دول عربية ومسلمة؟ ألم يتعهد بإعادة هذا الحظر إذا أعيد انتخابه؟ ألم يشر إلى ضآلة حجم دولة الاحتلال والحاجة إلى توسيعها؟ ولهذا، لا منطق للربط بين دعم ترامب والقول إن الإدارة الحالية شريكة في حرب الإبادة الحالية، ما يوحي بأن ترامب سيكون أفضل. الكل شركاء والموضوع أكبر من أن يُنسب إلى إدارة واحدة، فضلا عن أن المنطقة شهدت كيف يحتضن ترامب دولة الاحتلال. وهذا ما ينقلنا إلى السبب الثاني.
صحيح لم تندلع حروب كبرى في عهد ترامب، لكن صراعات كانت قائمة بالفعل في منطقتنا وخارج منطقتنا جرى تعزيزها
القول إن سنوات رئاسة ترامب لم تشهد حروباً فيه مغالطة أيضاً. نعم لم تندلع حروب كبرى في عهده، لكن صراعات كانت قائمة بالفعل في منطقتنا وخارج منطقتنا جرى تعزيزها، كما أن اعتداءات دولة الاحتلال على القطاع استمرّت في عهده، خاصة في عامي 2021 و2022. هذا بجانب أن ترامب أحدث تغييرات هائلة في سياسة بلاده الخارجية في أكثر من ملف، وفي مقدمتها الشرق الأوسط. ألم يعترف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال وبالجولان جزءاً من دولة الاحتلال؟ ألم يُبرم اتفاقيات تطبيع بين دولة الاحتلال وخمس دول عربية؟ ناهيك عن أمور أخرى يفعلها كل ساكن في البيت الأبيض، مثل تعزيز الدعم المالي والعسكري للاحتلال؛ والتغاضي عن تصاعد الاستيطان اليهودي في الأرض المحتلة، وعن ترسانة القوانين العنصرية التي تميز بين اليهود وغير اليهود داخل دولة الاحتلال؛ والتخلي عن القيام بدور نزيه لدعم تسوية تاريخية في المنطقة؛ ودعم الحكومات المستبدّة في المنطقة.
لا يمكن التغاضي عن الأثمان التي دفعها الفلسطينيون والعرب جرّاء كل هذه السياسات. ثم، ألا تشكّل كل هذه الأمور مقدمات طبيعية للحرب الدائرة؟ ألا تعني أن دولة الاحتلال صارت أكثر حرية في الانفراد بالفلسطينيين؟ ألا تعني مزيداً من تكبيل يد الحكومات العربية عن دعم الحق الشرعي للشعب الفلسطيني في تقرير المصير والتحرّر؟ أليس دعم ترامب حكومات عربية بعينها سببا رئيسا لتخاذلها أو مشاركتها أو تواطئها مع دولة الاحتلال في حصار غزة وفي حرب الإبادة؟
يقدّر حجم أموال الزكاة فقط التي يدفعها الأميركيون المسلمون بالمليارات سنويا، وهي تذهب إلى عديد من قطاعات المجتمع، وهذا محمود ويجب دعمه
أما القول بأن لا أسوأ مما يحدث الآن، كما جاء على لسان أحد الأميركيين المسلمين الذي يتولى عمدة مدينة في ولاية ميشيغان، فلا يمكن اعتباره إلا قصوراً في فهم ما يدور في المنطقة التي تسير من سيئ إلى أسوأ منذ عقود، ليس بسبب جبروت الاحتلال وداعميه فحسب، وإنما أيضاً بسبب مواقف الحكومات العربية وانقسام الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وأيضا بسبب ضعف الأقليات العربية والمسلمة في الغرب وانقساماتها. ... نعم ما يدور من مجازر أسوأ مما شهدناه في السابق، ولكن لا يوجد منطق لافتراض أنها الأسوأ على الإطلاق. بل يُثبت العام الماضي ذاته أن كل يوم في الحرب هو أسوأ من سابقه، من حيث بشاعة آلة القتل الصهيونية وتحرّرها من كل قيود أو مواثيق دولية أو أخلاقيات، ومن حيث حجم التخاذل أو التواطؤ العربي. والحرب لا تزال دائرة وخسائرها مستمرة، وهي تتّسع، وامتدّت أخيراً إلى لبنان، وليس من المستبعد أن تتّسع أكثر. كما أن من المتوقع أن تكون نتائج ما بعد الحرب أسوأ مما شهدناه إذا استمرت الحال على ما هي عليه، أي استمرت الفُرقة العربية والفلسطينية، واستمر الاحتضان الغربي لدولة الاحتلال. عمليات تهجير أهالي غزة بالقوة، وضم القطاع أو جزء منه، وتوسيع الدولة الصهيونية، أمور لم تتمّ رسميا بعد.
أدركت الأقليات العربية والمسلمة في الغرب اليوم عوامل قوتها غير المستغلة جيدا، والنقاش بشأن دعم هاريس أم ترامب مهم. لقد أظهرت حرب الإبادة في غزّة الحجم الضخم للنفوذ الذي تتمتّع به الأقليات اليهودية في الدول الغربية، تلك الأقليات التي توظف لوبياتٍ محترفة للضغط على صنّاع القرار في هذه الدول لصالح دولة الاحتلال، وتخصّص لذلك موارد بشرية ومالية هائلة. أظهرت الحرب أن هذا الحجم من الضخامة، بحيث يدفع هذه الدول إلى التضحية بركن أساسي من أركان أنظمتها السياسية الديمقراطية، وهو حرية التعبير وما يرتبط به من قيم التنوّع والتسامح وحق المعارضة وحق التظاهر وغير ذلك، ودفعها (الحكومات الغربية) أيضا في سياساتها الخارجية إلى التخلي عن قيم حقوق الإنسان والديمقراطية وعن المواثيق والاتفاقيات الدولية التي أنجزتها البشرية في العقود السبعة الماضية بعد حربين عالمتين مدمّرتين.
أدركت الأقليات العربية والمسلمة في الغرب اليوم عوامل قوتها غير المستغلة جيدا، والنقاش بشأن دعم هاريس أم ترامب مهم
يُظهر هذا النفوذ اليهودي الضخم كيف أن التأثير في السياسات الخارجية للدول الكبرى ممكن إذا ما امتلكت الأقليات العربية والمسلمة أدوات القوة والنفوذ. وفي مقدمة هذه الأدوات ثلاثة: الأولى، وحدة الهدف ووضوح المصالح والتي لا مفر من أن تتضمّن مصالح هذه الأقليات في الداخل، من حيث تمتّعها بالحقوق التي تقرّها الدساتير والقوانين من دون تمييز؛ وقضية فلسطين؛ ومسألة رفع الدعم عن الحكومات المستبدّة في المنطقة. هذه مصالح ثلاثة عادلة وواضحة وضوح الشمس. الثانية، العمل المشترك والمخطط والمؤسّسي وعبر قنوات متعدّدة، بما في ذلك ضرورة العمل مع الفئات والأقليات الأخرى التي تتقارب مصالحها مع المصالح العربية، وهي كثيرة ومن كل التيارات.
الأداة الثالثة: تخصيص الموارد المالية والبشرية، والمعروف أن الأقليات العربية والمسلمة في الغرب تمتلك الكثير من هذه الموارد، ولا ينقصها إلا التخطيط السليم والعمل المؤسّسي المنضبط. يقدّر حجم أموال الزكاة فقط التي يدفعها الأميركيون المسلمون بالمليارات سنويا، وهي تذهب إلى عديد من قطاعات المجتمع، وهذا محمود ويجب دعمه، لكن مع أهمية أن تذهب أجزاءٌ منه إلى تقوية المؤسّسات العربية العاملة في مجال دعم القضايا العربية العادلة. وفي الغرب كفاءاتٌ عديدة تعرف ماذا تفعل في هذا المجال، ولا ينقصها إلا الدعم المالي غير المشروط، والتخلي عن انتظار الدعم من الحكومات العربية. هذا هو الميدان الذي يجب أن يكون مركز اهتمام العرب والمسلمين في الغرب منذ الآن وبنفََس طويل.