تعالوا نجرِّب اليأس
للأمل سمْعة ممتازة. من خصال "الإيجابيين" من بيننا، الذين يرون في كل المصائب جانباً مشرقاً، أو درساً مفيداً، وما على البشرية إلا التقاطه. بذاك الإجماع عليه، يكاد الأمل يشبه العقيدة النظيفة. باللغة الحالية، هو "الصواب السياسي" بعينه. المفكرون والفلاسفة مجْمعون عليه. وكذلك المراقبون والمعلّقون والمحلّلون. بعضهم يعتبر نقيضه، أي اليأس، حماقةً صافية. خصوصاً إذا كان يأساً سياسياً. وبعد الفلاسفة والمفكرين، يحظى الأمل بحب الجمهور، الذي يأنس لأية بادرة أمل، أية بارقة.. وسط تدافع أسباب اليأس.
اليأس الواقعي، تلك المادة اللّزجة الملتصقة بأجسامنا، المصهورة بتفاصيل جهنمية. والأمل في وسطها، أو على جوانبها، مثل إبرة المخدّر. تمنحك القدرة على الاستمرار على قيد حياة نباتية، موصولاً بالنباريش. ولكنها إبرة ضرورية، ولذيذة أحيانا. تفتّح خيالك قليلاً نحو المستقبل، بعدما أحكم اليأس إغلاقه. ولكن بعد حين يدوم دقائق، تعود صهارة اليأس، فتفرض نفسها. هكذا، في دورةٍ شبه يومية، بطيئة، سريعة. وفي كل الحالات مدوِّخة: الأمل فيها نادرٌ في الحقيقة، ولكنه مسْتَحْسن، فائض في اللسان، فبين الدورة والأخرى جبالٌ من خيبات الأمل، تراكمت أحجاره فوق بعضها سنوات، وعلى أنغام الأمل.
نقطة قوة عقلية للأمل. ربما الوحيدة: انه يعزّز اليقين، أي تأكّد المرء مما يفكر به، ما يغْرقه في هناء الاطمئنان والراحة، يتفوّقان على التكاسل. وهذا مَيْل طبيعي، تجده عند كل المخلوقات. هذه الحاجة إلى اليقين هي أيضا سياج نفسي. يتحصّن خلفه المرء من الجنون، أو الضياع، أو اليأس..
بين الدورة والأخرى جبالٌ من خيبات الأمل، تراكمت أحجاره فوق بعضها سنوات، وعلى أنغام الأمل
اليأس تحديداً. صاحب السمعة السيئة. الذي يهزّ اليقين، ويعرّض السياج النفسي للاختراق، فيكون اضطرابا لا تتحمّله كل الأنفس، خصوصاً تلك التي تتمتع بيقينيات مدعّمة من بيئتها، أو بمصالح تدعمها اليقينيات.
اليأس المطلوب هنا مرادف للقلق، والفضول، والاستعداد لتحمّل أخطار الحقائق العارية. أي أن اليأس يحتاج إلى طاقة مضاعفة عن تلك التي يتوسّلها الأمل. إلى حركةٍ للعقل والمخيّلة. هذا اليأس ممتلئ بالطاقة. ليست تلك الطاقة المفتعلة، المسطّحة، التي تقتصر آلتها على تشغيل اللسان، أو النبش في قبور اليائسين عن أحكام وأقوال ترفع من قيمة اليأس. إنما طاقة داخلية، تشحذ من نفسها القدرة على تحمّل أهوال اليأس ومتاهاته، لأن اللايقين هو حافز اليأس ومحرّكه.
وبين اليائسين يتوزع قانون الطبائع نفسه المطبَّق على أصحاب الأمل. بعضهم يفصل بين المسائل العامة السياسية ومسائله الخاصة الشخصية. لا يترك نافذة للتجهّم في الخاص. هو تعيس سياسياً، ولكنه سعيد شخصياً. وهذا أكثر النماذج قدرةً على تكبّد اليأس السياسي، وحماية سنواته من السواد، فيما ترك الآخرون اليأس السياسي يتسلّل الى داخل بيوتهم، فكان أكثر تعاسة من الجميع، مع أنه يمكنه أن يتفوق بيأسه على غيره، ويبدع فيه.
من دون ضجيج الأمل وأناشيده. قد يصل صاحبه إلى وصفٍ للسياسة يختلف عما هو قائم، والمستند دائماً إلى أمل ما، مقبول، بشروط قليلة، أملاً بالأمل
اليأس الذي أقصده إذن: متحرّر من فعل "يجب"، أو "ينبغي"، أو ما يشبههما من أفعال. ولكن الخطورة في التحرّر هذا تكمن في تعريض صاحبه لانفلات أطر تفكيره، من دون أن تكون تكوّنت لديه أطر بديلة. وإذا تكوّنت، فبسرعة. وعليه ساعتها أن يهضمها، أن يستوعبها. ولذلك، سوف يكون لفعل "يجب" حضور قليل في هذه العملية، خصوصاً في بدايتها. وبعد أن يكون التشرّد خارج الأطر قد بلغ مرحلة الفوضى. فيكون الفرز بين نوعين من فعل "يجب": الفعل الذي بناه غيرك، وفرض عليك أطروحاته كافة. والفعل الذي تبْنيه أنت. بيديك. أو بوهم أنها من يديك، حتى إثبات العكس، على أن يكون يأسا هادئاً. لا ارتعاشات الغضب ترافقه، ولا بكاء مستمر وتوسل للسماء، وجلوس على الكنَبة.
وهذه الدعوة إلى اليأس ليست أبدية مؤبدة. إنها إجرائية. أي أنها صالحة للاستخدام العقلي فترة، تجريبية. قد تدوم لحظات، عندما تلتمع في الذهن ومْضة، تدوم بدوام الشُهُب. وقد تمتد العمر كله، فتتحول إلى يقين: يقين اليأس. وهذه خطورة إدمان اليأس. ولكن عندما يؤخذ اليأس كتجربة في التفكير، فهو يضاهي المنهجيات. ومن دون ضجيج الأمل وأناشيده. قد يصل صاحبه إلى وصفٍ للسياسة يختلف عما هو قائم، والمستند دائماً إلى أمل ما، مقبول، بشروط قليلة، أملاً بالأمل.
كيف يولّد اليأس أملاً؟ بأن يثبت أكاذيب هذا الأمل، وغاياتها القصوى
ما هو الهدف من هذه التجربة؟ إعادة التفكير بمعنى الأمل. ما هو الأمل الذي يبحث عنه اليأس؟ وهل يمكن بالأصل أن يولد الأمل بعد اليأس؟ لا اليأس السطحي الذي يقوله الجميع، من دون أن ينتبهوا إلى رداءة الأمل الذي يتلقّفونه ويكرّمونه. ولكن كيف؟ كيف يولّد اليأس أملاً؟ بأن يثبت أكاذيب هذا الأمل، وغاياتها القصوى. أي إبقاء الأشياء على ما هي عليه. بأن يفكِّك اليأس حوامل هذا الأمل. بأن يفكّك معها إمكاناتها، أو إمكانات أصحابها، طارحيها، بأن تتحقق.
والأمل الذي يولّده هذا اليأس هو بالضرورة طويل المدى، فإذا استطاع المرء أن ينسجم مع نفسه، ويسقط الآمال الكاذبة عن عرشها.. فهو لن يعتمد المؤشرات الراهنة، القريبة منه، إلا بالنذر اليسير. بل على ما في وسع خياله أن يبلغه من تصوّر لوقائع أخرى، لقيم أخرى، تختلف عن التي ازدهرت في عصر اليأس الحقيقي والأمل الكاذب.
قد يُنبَذ اليائس من الجموع، صانعي الإعلام ومستهلكيهم. وقد تختلف طرُقه عن طرُق نظرائه من اليائسين أيضاً. ويبقى وحيداً. مثل ناسك صحراوي. وشجرة نخيل تستظله. وماء قليل وعطش.
دعوة إلى اليأس ليست أبدية مؤبدة. إنها إجرائية. أي صالحة للاستخدام العقلي فترة، تجريبية
تعالوا الآن نطبّق اليأس على الوضع الداخلي اللبناني: ونعيد التفكير بما يسمّيه إعلامنا "بارقة أمل". وبوارق الأمل لا تتوقف عن العمل، على وتيرة التناتش الذي لا يفلح بغيره أصحاب السلطة. في الآونة الأخيرة، كلما اقترب رئيس الوزراء المكلف، سعد الحريري، من رئيس الجمهورية، تنفّس الجموع الصعداء، وقالوا "بارقة أمل". بماذا؟ بأن الحكومة سوف تتشكّل. وبأننا سوف نواجه المجتمع الدولي، بما يلفت نظرها إلينا... والكلمات الفرِحة إياها. والحال، أن الحكومة لن تتشكل، لأن الجميع ينتظر إيران وأميركا. وقد يستمر هذا التجميد أشهراً، وربما سنوات. أما إذا تشكّلت الحكومة، وبالمواصفات الضرورية، الفرنسية – السعودية – الإيرانية -الأميركية – الروسية – التركية - الإسرائيلية.. فماذا سيكون بمقدورها أن تفعل تجاه الانهيار العام؟ لا شيء، طبعاً. إلا في الانتظار: بأن تُحَلّ بين الأقوياء من أصحاب الأدوار، بحرب أو باتفاق.
ما نفع اليأس هنا؟ أنه يخرجك من دائرة مغلقة قوامها: "بارقة أمل" ثم يأس. ثم "بارقة أمل"، ثم يأس .. إلى أن تبلغ عمر الأسلاف. وهذا هدرٌ للوقت والمزاج والمستقبل. إذن، ضع كل هذه المناجاة جانباً وانسف أمنياتك وسياق حياتك، وأفكارك المسْبقة حول كذا أو كيت من المسائل. وانظر حولك بعين القريب/ البعيد: ما هي مقومات اليأس ومقومات الأمل؟ افرزها، تلك المقومات. واحد، اثنان، ثلاثة .. وقارن بينهما، من حيث الدقة والعمق والوضوح. وسوف تلاحظ أن اليأس أوثق من الأمل عقلياً.
وعكس ما يصوَّر عن اليائسين: أنهم ذاهبون إلى القعود والسلبية والعبوس. وربما، في النهاية، للعمليات الانتحارية، السياسية أو الأمنية. أو"داعش" أو "القاعدة" .. إلخ. هؤلاء يصنَّفون في خانة المحبَطين. لا اليائسين. والفرق بين المُحبَط واليائس كبير: الأول قاعد والثاني ناهض. الأول عبثي والثاني منطقي. الأول هادم والثاني بنّاء، يتعثر الآن. الأول كان عنده أمل، فخاب واُحبِطَ. والثاني لم يخب لأنه كان يدرك أن الأمل كان كاذباً.