تفكيك مقولة "الاستبداد شرقيّ"
رصد باحثون عديدون أن مقولة "الاستبداد الشرقي" تعود بجذورها إلى أرسطو الذي يرى أن الاستبداد كامنٌ في الشرق، بسبب أن الشعوب الآسيوية (يصفها بالبرابرة) تميل، بطبيعتها، إلى الاستبداد "لأنهم عبيد بالطبيعة" حسب قوله، كما ردد المقولة نفسها المفكر الفرنسي مونتسكيو (1689 - 1755)، صاحب نظرية "الفصل بين السلطات" ومؤسسها، والذي يرى أن "الاستبداد الشرقي" قدرٌ يصعب الفكاك منه، حيث يستند الحاكم المستبد إلى الدين لتبرير حكمه، كما أنه يرى أن أمراء الشرق "انغمسوا انغماساً شديداً على الدوام في الميوعة والشهوة"، كما ردّد الأفكار نفسها هيغل (1770 - 1831)، والذي يرى أن الحكم الاستبدادي هو "نظام الحكم الطبيعي للشرق" الذي يقوم على أساسٍ أبويٍّ بطريركي. حيث يقوم النظام الشرقي على مبدأ شخصٍ واحد حر، هو الحاكم الذي يمارس "حكمه على طريقة الأب مع أبنائه، وأن له حقوقا، لا تجوز معارضتها، لأنه أب للجميع، وطاعته واجب حتمي"، وتبنى أيضا الفكرة كارل ماركس، ضمن ما أطلق عليه "نمط الإنتاج الآسيوي".
هناك ثلاثة أمور يمكن تلمّسها من خلال هذه المقولات؛ أولها أن هذه المقولة تثبت أن المقولات التي قد تسوّغ الاستبداد ليست فقط أُسيء فهمها داخل التراث الإسلامي، ولكنها تمتدّ إلى التراث والأدبيات الغربية في هذه الموضوع حينما ذهبت إلى التعميم على الشرق وربطه بمسألة الاستبداد ضمن مقولاتٍ فرعية تتعلق بنمط الإنتاج الآسيوي أو المجتمعات النهرية.
لا تتعلق الظاهرة الاستبدادية بجغرافيا وإنْ تأثرت بها، ولا تتعلق بجنسٍ وإن اعتبرت المسائل التي تتعلق بالقابليات للظاهرة
تستند ثاني هذه المقولات، في جوهرها، إلى قدر من الحتمية والجبرية والأبدية، وكأن الاستبداد قدرٌ مقدورٌ لا يستطيع الشرق، جغرافيا وثقافة، أن ينفكّ منه وعنه. وهذا يهمل المعني السنني الذي يتعلق بفعل التغيير الحضاري، ذلك أن هذه السنن لا تحابي أحدا، كما أنها لا ترتبط بأقوام دون أقوام، أو جغرافيا دون جغرافيا، أو ثقافة دون ثقافة، فهي تتسم بالحقيقة الشرطية التي تؤكّد أن كل شأن يقع في حيز الإمكان وفي واقع الميدان، ما توفّرت شروطه، وأن النتائج من جنس العمل والشرطية في هذا المقام تعبر عن فعل مفتوح ومحدّد في آن. أما انفتاحه فيكمن في اضطراد السننية فيه، أما حدوده فترتبط بالشروط الفاعلة فيه، ومدة توفرها بانتفاء الموانع وغيرها من أمورٍ قد تؤثر على منظومة الشرطية مستصحبة السببية أو العليّة.
ثالثها؛ أنه ليس هناك أي أمر يمكن أن توصف به شعوب دون شعوب. وفي هذا السياق، هذه الأمور لا يمكن تفسيرها بأسباب طبيعية موزونة، وإن كان لذلك تأثير في عموم البيئة المحيطة والقابلات للظواهر، فالفكرة التي تتعلق بالطابع القومي أو الشخصية القومية ووصم الشعوب بسماتٍ معينة، مثل مقولات العقل العربي وسماته وغير ذلك من أمور، من جملة فائض التعميمات التي لا يمكن أن تتسق مع حقيقة الرؤية المنهجية والطريقة العلمية المعتبرة.
دراسات كثيرة ترى المجتمعات العربية ساكنة، وقدرتها على التحول والتغير بطيئة
ومن هنا، لا تتعلق الظاهرة الاستبدادية بجغرافيا وإنْ تأثرت بها، ولا تتعلق بجنسٍ وإن اعتبرت المسائل التي تتعلق بالقابليات للظاهرة التي تعبر عن اختيار، كما أدرك ذلك لابوسية، وأكد على فكرة العبودية المختارة، ولا ترتبط بثقافة دون أخرى، ذلك أن الظاهرة الاستبدادية قد شهدها شرق وغرب، وثقافات عدة ومراحل تاريخية متنوعة وأبعاد متعدّدة. والأقرب إلى الصواب أن تفسر الظاهرة الاستبدادية بأسبابها ضمن أسس الفكر المنظومي وشبكة التفسير للعوامل المختلفة وتفاعلاتها مع واقع الناس، ومع منظومات أفكارهم وتعاطيهم مع كل ما يتعلق بذلك، فهي في هذا الشأن اختيارٌ ملتزم مسؤول لا جبرية حتمية، لا انفكاك عنها أو منها.
وقد أكّد عادل عبد المهدي في دراسته "دولة الاستبداد الشرقي : دولة الغربي في الشرق نقاش حول مفاهيم الاستبداد الشرقي ونمط الإنتاج الآسيوي" (مجلة الفكر العربي المعاصر، سبتمبر/ أيلول 1981) أن الاستبداد والقمع والظلم والاستغلال وقائع قائمة وموجودة، وأحيانا طاغية، في المجتمعات الشرقية منذ فجر التاريخ، ولكن المشكلة هي في نظرية "الآسيوي" و"الشرقي" وما شابههما وما تحمله من مفاهيم عنصرية واستنتاجات تمويهية تقود، عند القبول بها، إلى رفض تاريخنا وقبول التاريخ الغربي، وإلى تدمير مجتمعاتنا، لا إلى بناء بدائل متطورة عنها، بل إلى بناء أشباه تجارب (شبه رأسمالي، لا رأسمالي، شبه مستقل، شبه مستعمر،.. إلخ)، أو تجارب ممسوخة لمصلحة رفاه المجتمعات الغربية وتقدّمها وحريتها، فالاستبداد الشرقي حقيقة ولا يمكن كشفه وتعريته ومعرفة أسسه إلا "بالمعايير الشرقية" إن صح التعبير. أما القول بالاستبداد الشرقي بالمعايير الغربية فإنه يعني أن مجتمعات الغرب تاريخيا وحضاريا هي مجتمعات الحرية والديمقراطية، وإن الحل هو بمواصلة تدمير مجتمعاتنا، لاستيراد طبعة ممسوخة من الحضارة الغربية، لأن النمط الغربي محدود بطبعه بفعل الاستعمار (المستعَمر ضرورة للمستعَمر ونفي أحدهما نفي للآخر).
الأقرب إلى الصواب أن تفسّر الظاهرة الاستبدادية بأسبابها ضمن أسس الفكر المنظومي وشبكة التفسير للعوامل المختلفة
ومن هنا، مصطلحات نمط الإنتاج الآسيوي والاستبداد الشرقي شأنها شأن مصطلحات غربية كثيرة لم تأت مصطلحات أفرزتها التجربة الداخلية للمجتمعات الشرقية، أو نتيجة تحليل علمي لهذه المجتمعات، بل محورها "رؤية التاريخ عبر أوروبا" أنها نتاج صراع حضاري ترافق مع تنامي الحضارة الاستعمارية الرأسمالية ونزعتها إلى الاستيلاء على ما عداها. ولإنجاز هذه المهمة، كان عليها البدء بتدمير المجتمعات الأخرى، وقد غطّت عمليتها هذه برسالة حضارية، مدّعية أن ما تدمره هو التخلف والاستبداد والجمود، ومقابل الاستبداد الشرقي تقف الحرية والديمقراطية الغربية ... ، ومقابل التخلف الشرقي تقف المبادرة الرأسمالية الفردية، وضمن هذه الرؤية تفهم الأبعاد الواعية أو غير الواعية لتبرير كلمات ماركس والماركسيين عن النعمة البناءة للاستعمار البريطاني بتدمير المجتمعات الآسيوية وبناء الرأسمالية في الهند.
دراسات كثيرة ترى المجتمعات العربية ساكنة، وقدرتها على التحوّل والتغير بطيئة، ذلك لأن ثقافتها التي تنطلق منها رؤية هذ المجتمعات إلى العالم سكونية. وهكذا سقطت هذه الدراسات في فخّ النظرة التأبيدية، ولم تتمكّن من استيعاب العوامل الاجتماعية والسياسية والخارجية التي كان لها دور مؤثر في ثقافة هذه الشعوب وحياتها، ولا يخرج الكلام الكثير عن الاستبداد الشرقي عن هذا الإطار، فمثل هذه النوعية من الدراسات تنتهي إلى نوع من أنواع العنصرية الثقافية. وترتبط هذه الفكرة بما يمكن تسميتها المركزية الغربية ثقافيا وحضاريا، والتي تحاول أن تمدّ معاييرها وشروطها وتجليات ظواهرها على كامل المعمورة، وعلى كل الخبرات والثقافات والحضارات ضمن رؤيتها التنمطية وتسويفها غالبية الغرب ومغلوبية الشرق، وهذه الأوصاف لا تستقيم بأي حال، فبماذا يفسّر ظهور الاستبداد الديني في الحضارة الغربية، وبماذا يفسّر ظهور النماذج الفاشية والنازية والسلطوية في الحضارة الغربية في أزمان مختلفة (هتلر وموسوليني مثلا)، بل إن صورا من الشعبوية المستحدثة قد تتخذ من أسانيدها حالة سلبية ممزوجة ومسكونة بفكرة عنصرية، وما النموذج الذي يمثل ترامب وماكرون شاهديْن في هذا المقام.