تكتيكات مصرية تتجاوز دور الوساطة في غزّة
فرض العدوان الإسرائيلي على غزّة موقعاً مستجدّاً للقاهرة، أن تكون بجانب دورها التقليدي وسيطاً أقرب إلى التفاوض، بشأن بنود تتضمّن، على مدى قريب، انسحاب الاحتلال من معبر رفح ومحور فيلادلفيا، ومستقبلاً في ملفاتٍ بينها التعاطي مع مشاريع الاحتلال الهادفة إلى تغيير الخرائط السياسية للقطاع. وميدانياً، مسألة تأمين الحدود، ومخطّطات تقوية الحواجز بين القطاع وغلاف غزّة وزيادة المنطقة الجغرافية الفاصلة، وإنشاء مناطق عازلة مماثلة بين القطاع ومصر، بجانب تعزيز نظم المراقبة في المنطقتين.
وإضافة إلى تأمين الحدود، تبحث إسرائيل، على المستوى السياسي، تنفيذ مشروعات بديلة لحكم حركة حماس، بينها تأسيس مجلس محلي يدير القطاع، بمشاركة السلطة الفلسطينية أو من دونها، تلتقي مع مسار تسويةٍ ألمح إليها وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في زيارته الثامنة للمنطقة العربية، منذ اندلاع الحرب، سيعلن تفاصيله بعد أسابيع، ضمن إعادة تعيين واشنطن موقعها في الشرق الأوسط، بعد واقعة 7 أكتوبر.
وفي كل الأحوال، القاهرة متأثرة بتداعيات الحرب، سواء في مرحلة المواجهة الميدانية، أو بعدها حال الوصول إلى هدنة، وتبدو فرص إتمامها متعثرة، ومعها تحدّيات أمنية وسياسية للنظام، حتى وإن تجاهلت وسائل إعلام تمركز قوات الاحتلال على الحدود، من دون القدرة على اتخاذ مواقف تدفعها إلى التراجع، وهو ما يقتطع من رأسمال النظام الذي يتناقص بفعل الوضع المعيشي، واستدامة أزمتي الديون وارتفاع الأسعار، وعودة انقطاع التيار الكهربائي مرّة أخرى، مؤشّرات على استدامة الأزمة الاقتصادية.
إضافة إلى تأمين الحدود، تبحث إسرائيل، على المستوى السياسي، تنفيذ مشروعات بديلة لحكم حركة حماس
وعلى مستوى خارجي، تنال تحدّيات الحرب من الصورة الاعتبارية لمصر، بوصفها دولة مفترضاً لها وزنها إقليمياً، وحين تبقى ردّات الفعل غير كافية، ولا تردع إسرائيل، يصبح الوضع حرجاً، فلا ردع ممكناً، ولا مراهنة نجحت اعتماداً على تحسّن العلاقات مع تل أبيب في سنوات ماضية، تجعلها تحترم اتفاق سلام، يعتبره النظام خياراً استراتيجياً. وهاهما، البعدان الداخلي والخارجي، يزيدان الضغوط، ما سيدفع النظام إلى مغادرة دور الوساطة التقليدية، والمزاوجة بين التفاوض والوساطة، بما في ذلك تقاطعات مع مختلف الأطراف، بشأن الحدود والتهجير والإعمار، ومستقبل القطاع، وضمن أسباب تدفع القاهرة إلى الاتجاه نحو التفاوض مع تل أبيب وواشنطن بوصفها طرفاً مستقلاً، تغيّر نظرتها إلى الحرب بعد 6 الشهر الماضي (مايو/ أيار)، واستمرار العملية العسكرية في رفح، بل توسّعها شرقاً وغرباً، واستهداف النازحين على نحو متكرّر، وبقاء السيطرة على المعبر، غير تكرار الهجوم على القاهرة، ما يدفعها إلى إعادة تقدير مستوى المخاطر، ومواقف القوى الدولية، حتى وإن لم تتّخذ، حالياً، مواقف تصعيدية ضد إسرائيل، قد تعوق جهود الوساطة لوقف إطلاق النار، إلا أنها تصعّد من خطابها.
وعملياً، انتقلت القاهرة، ضمن تفاعلات دولية وإقليمية، إلى مواقف أكثر وضوحاً يعكسه الخطاب الرسمي، سواء في مشاركتها بمؤتمرين، في الصين وفي روسيا، أو في أثناء زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أو مؤتمر الاستجابة الإنسانية الطارئة، الذي دعت إليه القاهرة وعمّان، وتلاه اجتماع ثلاثي بمشاركة السلطة الفلسطينية، وحملت القاهرة خلاله، تل أبيب تبعات العدوان، بما في ذلك التأثير على الاستقرار، وتوسيع دائرة الحرب، غير إدانة صريحة واعتبرها عائقاً للتوصل إلى اتفاق هدنة، بما يخالف الموقف الأميركي الذي يرى أن تعنت حركة حماس في قبول "صفقات" سبباً لإطالة أمد الحرب، في مغالطة هدفها مزيد من الابتزاز للدول العربية، خصوصاً الوسطاء، للضغط على المقاومة بوصفها تقود دفّة القتال، لا كونها تتخذ موقفاً دفاعياً، وطبيعياً ضد جرائم الاحتلال، حتى ولو أن هناك مساحات اختلاف حول مسار التفاوض.
مع إحساس القاهرة بأن مسار الحرب يهدّد مصالحها، باتت لهجتها أكثر وضوحاً في ما يخصّ رفض العدوان، وتحميل إسرائيل تبعاته
ولم يكن حديث بلينكن وسط حضور عربي وفلسطيني وأممي، عن "حماس" بوصفها "العدو" واجتراره مأساة أطفال من القطاع بوصفهم ضحايا المقاومة، سوى تعبير عن فعل واعٍ، يحاول إزالة طابع التوحش عن الاحتلال، وإلصاقه بالمقاومة، بوصفها المسؤولة عن الحرب التي خلفت ما يزيد عن 37 ألف شهيد؛ بينهم 15,694 طفلاً، بينما قارب عدد الجرحى 85 ألفاً، معظمهم من النساء والأطفال، ما دفع الأمم المتحدة أن تدرج إسرائيل بجانب داعش، ضمن قائمة العار، وهي " القائمة السوداء" التي تشمل المجرمين ضد الأطفال خلال النزاعات، وكان القطاع هو أكبر منطقة شهدت انتهاكات، شملت القتل والتشويه، والاعتقال، والأخير، طاول أكثر من 900 طفل، بحسب رصد الأمم المتحدة. كما أن الوضع في الضفة الغربية يزداد صعوبة، مع استشهاد 543، وإصابة ما يزيد عن خمسة آلاف، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية. وتفيد بيانات نادي الأسير بأن عدد الاعتقالات منذ عملية 7 أكتوبر، جاوز تسعة آلاف فلسطيني، بجانب اعتداء المستوطنين على بلدات وقرى وتدمير ممتلكات وحصار في الضفة الغربية والقدس يشتد مع العدوان على غزّة.
ومع إحساس القاهرة بأن مسار الحرب يهدّد مصالحها، باتت لهجتها أكثر وضوحاً في ما يخصّ رفض العدوان، وتحميل إسرائيل تبعاته، بما في ذلك الكارثة الإنسانية من قتل وتجويع وحصار، أو كما خطاب رسمي، تتّخذ الحرب "صبغة انتقامية وتدميرية مقصودة لجعل القطاع غير قابل للحياة، وتهجير سكّانه". لذا طرحت القاهرة أربعة مطالب أساسية، وقف إطلاق النار، وفق قرار مجلس الأمن الصادر في 10 يونيو/ حزيران الحالي، والانسحاب من مدينة رفح، وايصال المساعدات عبر المعابر البرية، وعودة النازحين، وإن كانت هذه المطالب تتعلق بالقاهرة، فإنها أيضاً تلتقي مع موقف "حماس"، وردها الذي وصفته بالإيجابي، مساء الأربعاء الماضي (12 يونيو) على مقترح أميركي لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، بتعديلات طفيفة (بحسب تصريح أميركي) تضمّنت الانسحاب من مدينة رفح، وفتح المعابر البرّية، ودخول المساعدات وبداية الإعمار، ضمن المرحلة الأولى للاتفاق، ما يحدّ من فرص معاودة الاحتلال الهجوم، ضمن تخوّفات أعلنتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي في بيانهما المشترك، بشأن الضمانات وموقف واشنطن المساند لتل أبيب.
تصطفّ القاهرة مع مطالب "حماس" الأساسية، الانسحاب الكامل من القطاع وإيصال المساعدات، وتساند وجود السلطة الفلسطينية في المشهد وتدفع به
ويبقى أن الانسحاب من معبر رفح والمدينة أمر طبيعي، ويمثل نقطة التقاء ومصلحة بين المقاومة والقاهرة، وإن كانت لا تميل مصر إلى عودة حكم "حماس" إلى القطاع، وتدفع لتثبت السلطة الفلسطينية خياراً بديلاً مع تفاهمات في الساحة الفلسطينية ومشاركة للقوى السياسة عبر منظمة التحرير، لكن وضع غزّة، في الوقت نفسه، في حالة حرب تطول، أو حالة فوضى من دون سلطة وإدارة، سيمثل خطراً أيضاً. لذا تحرص مصر ألّا تغيب السلطة عن التفاعلات الدولية، وتسعى إلى إبرازها لتؤدّي دوراً في ترتيبات ما بعد الحرب، بالتوازي مع نقاش مع الفصائل المسلحة والقوى السياسة، للبحث عن قيادة فلسطينية، تشكّل طرفاً متماسكاً، يستطيع التفاوض، وتمرير تسوية لوضع غزّة والضفة الغربية، ويتجاوز أيضاً الصدع الذي خلفه الانقسام الطويل، وأيضاً مساحات السجال المستجدّة مع قيادة المقاومة حول نتائج "7 أكتوبر" ومسار الحرب والتفاوض، والتي لا يستقيم معها بقاء تفتّت القوى الفلسطينية بهذه الصورة.
وتدرك القاهرة أن تصدّر حركتَي حماس وفتح المشهد، وهما منفصلان، وغير قادرين أيضاً على جذب باقي الأطراف الفلسطينية إلى ساحتهما، يقلّل جدوى أي طرف يسعى إلى الوساطة وجهوده. لذا تبحث عن مشتركاتٍ بين القوى الفلسطينية، وذلك يتصل أيضاً بمساعي تقوية موقفها والدفاع عن مصالحها، وتقليل آثار الحرب سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
وتصطفّ القاهرة مع مطالب "حماس" الأساسية، الانسحاب الكامل من القطاع وإيصال المساعدات، وتساند وجود السلطة الفلسطينية في المشهد وتدفع به، وتحاور القوى الفلسطينية، وتحاول الاشتباك مع كل الأطراف، في محاولة لصد جنوح الاحتلال، ولا تمارس دور الوساطة فحسب، كما كانت سابقاً، للحفاظ على دور إقليمي، وتوطيد علاقاتها بمختلف الشركاء الإقليميين والدوليين، وإنما، حالياً، وبقدر كبير تدافع عن حدودها ومصالحها، بما يضمن أقلّ الخسائر مستقبلاً، وتحاول الخروج من أزمة مركّبة، تمر بها (القاهرة)، ويبدو فيها النظام محاصراً بالأزمات.