تلك المحكمة الألمانية ومفهوم العدالة في سورية
أثار الحكم على ضابط الصف المنشق عن النظام السوري، إياد الغريب، بأربع سنوات ونصف سنة سجناً في ألمانيا، نقاشات إشكالية في أوساط المعارضة. بداية، هناك ضرورة لمحاكمة كلّ من أجرم بحق السوريين، وقام بالتعذيب والقتل، في مؤسسات النظام أو الخارجة عنه؛ فهذا حقٌّ للأفراد ولعائلاتهم، ولطيّ أيّة أحقاد مجتمعية مستقبلاً، ووفاءً لتضحيات السوريين، أقلّها منذ 2011.
تتضمّن بعض تلك النقاشات تبرّيراً للمجرمين بسبب انشقاقهم عن مؤسسات السلطة، بينما تفترض الرؤية الثورية حزماً دقيقاً، لا سيما بشأن من ارتكب الجرائم، أو كان فاسداً وناهباً؛ فهذه أفعال تضرّرت منها أغلبية الشعب السوري. الانشقاق عن النظام لا يَجبُّ ما قبله، وبالتالي كيف للسوريين أن يؤسّسوا دولة حديثة، كل الأفراد فيها متساوون، ويلغي فيها أيّ استغلالٍ للعمل العام، أو إساءةٍ تحطّ من كرامة الأفراد وحقوقهم وواجباتهم. هناك سؤالٌ مشروعٌ يُطرح هنا: لماذا تظهر هذه الإشكالية، ألم تكن الثورة تبتغي إسقاط كل شكل للاستبداد أو الاستغلال وتنهض بالمجتمع؟
للنظام مؤسساته في القمع والفساد والنهب، والثورة قامت ضد ذلك كله وسواه. هنا، يجب التفريق، وبشكلٍ نهائي، بين الثورة والمعارضة، وضمن الأخيرة هناك معارضات. لم تكن المعارضة/ المعارضات ممثِلة للثورة، وأسوأ ما ارتكبته رفضُها الإقرار باستراتيجية متكاملة، تكون المرجعية لأعمالها ولتطوّرات الثورة ولمستقبل سورية، وللإشكالات التي عانت منها. دفعت الفكرة الأخيرة محللين كثيرين إلى القول إن الثورة انتهت، بعد أن تعسكرت وتطيفت وتأسلمت وتأقلمت وتدولت، حيث لا مصلحة للشعب السوري بذلك.
لا يكتمل مفهوم العدالة لدى السوريين إلّا إثر الانتقال السياسي وبتطبيق مبادئ دقيقة لها، وتسري على الجميع، بينما المحاكمات في ألمانيا، وخارج سورية وقد تتوسع، نتائجُها محدودة
يرتبط سؤالي عن نقاشات ما بعد الحكم أعلاه بغياب تلك الاستراتيجية؛ غيابها هو ما سمح بكل التطورات أعلاه. وبالتالي، وبدلاً من محاكمة أوّليّةٍ للمنشقين، ولحظة انشقاقهم، وعبر مؤسساتٍ قضائية تابعة للثورة، وتبيان مسؤوليتهم، تمّ الاحتفاء بهم، لتحفيز آخرين لذلك. ثم، وكأنّ بالمنشقين تنجح الثورة، وأن الشعب الذي ثار لم يكن يكفي لإطاحة النظام، وأن الثورة يجب أن تضم كل الشعب السوري، وحينها تنجح؛ هذا تفكير طفولي بامتياز، أي غير ثوري بكل بساطة، وهو ما هيمن على المعارضة. في هذا هناك نقدٌ دقيق لنتائج العسكرة والانشقاقات، حيث كانت وبالاً على الثورة، بينما توسعت الأخيرة، وهدّدت النظام حينما كانت العسكرة والتطييف وأقلمتها وتدويلها أقل، أي في أعوامها الأولى.
لا يكتمل مفهوم العدالة لدى السوريين إلّا إثر الانتقال السياسي وبتطبيق مبادئ دقيقة لها، وتسري على الجميع، بينما المحاكمات في ألمانيا، وخارج سورية وقد تتوسع، ستكون نتائجُها محدودة. الانتقال وحده ما يؤسّس للسلم الأهلي وطيِّ صفحة الحرب والجرائم، والتأسيس لسورية موحدة ومستقلة. عدم تطبيق مفهوم العدالة سيُبقي أغلبية السوريين موزَّعين لولاءات خارجية، ألم نسمع بحديثٍ يقول مرحباً روسيا، ومرحباً تركيا، ومرحباً أميركا و.. و..؛ هذه كلها من نتائج سياسات النظام والمعارضة. وتطبيق العدالة، وتنفيذ الأحكام، وبإشراف قضائي مستقل ونزيهٍ، سيقي سورية من مصير يوغسلافيا أو التفكّك في العراق أو لبنان مثلاً.
لا خيار وفقوس في قضايا الحقوق، وإذا كان الحكمُ صدر بحق "مجرم" صغير، فالعدالة ستطاول رفيقه في المحاكمة، العقيد أنور رسلان، وستطاول آخرين، منشقّين وغير منشقين. الفكرة الأخيرة تتعلق بما قَبل الانتقال السياسي، بينما حين البدء فيه، ستطاول المحاكمات الجميع، وهذا مؤجّل إلى لحظة التوافق عليه. نعم ليس هناك من عدالةٍ مطلقة، ولا سيما إن بدأت بالمنشقين، ولكن ذلك يتطلب وضوحاً شديداً، ومن سلطةٍ قضائية، وليس من سواها؛ هي فقط ما يؤسّس لتجاوز الانتقام والثأر والحقد بكل أشكاله، وكذلك يطوي صفحة النقاشات الإشكالية.
وصلت سورية إلى لحظة خطيرة في تطوّر أحداثها، وأصبح النفوذ الإقليمي والدولي على الأرض السورية أقرب إلى الخرائط الثابتة لهذه الدولة أو تلك
تكرّرت في أوساط السوريين النقاشات بشأن المنشقين عن النظام، عسكريين وساسة. مشكلتُنا في غياب تلك الاستراتيجية، وسيادة الفوضى والحزبية والشللية والتبعية للخارج، وكان من نتائج ذلك تهميش المنشقّين بأنواعهم، وسيادة معارضات وفصائل لا تمثل الثورة. وضمن ذلك، لم تُهدر فقط تضحيات أهل الثورة، بل وخبرات المنشقين. أيّة نظرة إلى واقع الفئة الأخيرة، سنراها مهمشة أولاً، وثانياً ملحقة بمعارضاتٍ وفصائل مسلحة مُلحقةٍ بدورها بدولٍ إقليمية. أيضاً، شكّل غياب الاستراتيجية، وأن تشمل كامل سورية، سبباً لتسلّط الفصائل السلفية والجهادية "وشرعنتها"، والأنكى أنها انقسمت على بعضها وخاضت حروباً بالجملة، وفي كل المدن السورية. نعم، لا علاقة لها بالثورة من قريب أو بعيد، فممارساتها أدّت إلى تعزيز مصالح النظام أو الدول الإقليمية، وهذا أمعن في تأزيم الوضع السوري، وأسّس لإشكالات كبيرة، وتطاول أوجه المجتمع كافة؛ فالانقسام في سورية صار عميقاً، دينياً وقومياً، ومناطقياً، وهناك التبعية للخارج.
بعيداً عن النقاشات السلبية، فإن إصدار الحكم الأوّل أعلاه، إضافة إلى تقارير كثيرة أمام المحاكم والمنظمات الدولية تدين النظام، وتدين ممارسات فئات في المعارضة والفصائل، وتزايد حدّة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتراجع قدرة روسيا وإيران عن دعم النظام، أقول إن ذلك كله يدفع السوريين، معارضين وموالين للتفكير بالمستقبل، وبكيفية تأسيس استراتيجية جديدة للنهوض بسورية؛ القضية التي رفضها النظام والمعارضة، وآثروا المصالح الضيقة والتبعية للخارج.
لا يكتمل مفهوم العدالة لدى السوريين إلّا إثر الانتقال السياسي وبتطبيق مبادئ دقيقة لها، وتسري على الجميع
وصلت سورية إلى لحظة خطيرة في تطوّر أحداثها، وأصبح النفوذ الإقليمي والدولي على الأرض السورية أقرب إلى الخرائط الثابتة لهذه الدولة أو تلك، وفقط يمكن التبادل بين الدول المحتلة لسورية في بعض المناطق. يقول هذا الوضع بضرورة التسوية للمسألة السورية؛ حيث تم تثبيت مناطق النفوذ، وفشلت المسارات الروسية، ولا جدوى للقرارات الدولية، فأميركا وأوروبا لم تضغطا من أجل تطبيقها منذ إقرارها. ولكن المواقف الأميركية لم تتوقف، ومنها قانون قيصر، وتأمين الغطاء للضربات الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية، وقيام أميركا بقصف شديد لأهدافٍ إيرانية في البوكمال.
الفقرة الأخيرة هي حالة التدخل الدولي في سورية، وهناك حدّة الأزمة الاقتصادية، وأخيراً إثارة النظام نقمة جديدة لدى الناس بقصة الانتخابات الرئاسية، وهو غير قادرٍ على تلبية أية حاجات، والخدمات في غاية السوء. أقول إن مسار العدالة الذي بدأ في محكمة كوبلنز في ألمانيا لن يتوقف هناك، ولكنه لن يكتمل إلّا على الأرض السورية، وبعد إجراء الانتقال السياسي؛ والأخير تستدعيه الوقائع المتأزمة بقوّة. الجفاء بين الرئيسين، الروسي بوتين والأميركي بايدن، ليس نهاية المطاف، وربما هو ذاته يكون بداية التسوية للمسألة السورية.