تناقض الخطاب والفعل في الفضاء السياسي السوري والمشرقي
سؤال مهم يواجه السوريين اليوم، من دون أن يحظى بالاهتمام المطلوب: لماذا يتعاون السوريون، على اختلاف أطيافهم، مع القوى الإقليمية والدولية التي تسعى إلى السيطرة عليهم، وتحويل بلادهم إلى ساحة صراع دولي، ولكنهم لا يبدون استعدادا كافيا للتعاون في ما بينهم، لتحقيق المصلحة الوطنية المشتركة؟ لا أتحدث هنا عن المؤسسات الرسمية التي تمثل النظام والمعارضة، وتستمد شرعيتها من ارتباطها بقوى دولية أو إقليمية، لا من تماهيها مع القوى الوطنية التي تتحرّك باسمها، فهذه المؤسسات أصبحت تخضع جميعا، بعد مرور سنوات على انطلاقة الثورة، لحساباتٍ خاصة ومصالح جهوية وطموحات شخصية. يتعلق السؤال بالشريحة الواسعة من الناشطين في داخل البلاد وخارجها، المطّلعين على حيثيات الصراع الدائر في سورية، ودور الدول النافذة في الملف السوري، وطريقة تقييم أدوارها والتعامل معها. ما الذي يدفع معارضين لنظام الاستبداد، مثلا، إلى طلب العون من روسيا، وإعطاء تدخّلها في الصراع السوري دورا إيجابيا، وذلك باستحضار التصريحات الناعمة للدبلوماسيين الروس الذين يبدون تأييدا نظريا لحق السوريين في حياة حرّة كريمة، وممارسة العمل السياسي للمشاركة في صنع القرار الوطني، بينما يقف قادتهم السياسيون خلف النظام، ويشنون غاراتٍ جويةً متكرّرة على الشعب السوري، ويقدّمون لنظام الاستبداد الدعم العسكري الكامل، ويستخدمون أكثر أسلحتهم فتكا لتدمير القرى والمدن السورية التي تطالب بالحرية والكرامة من نظام الفساد والاستبداد؟
التعاطي مع الدول النافذة التي أظهرت التجارب القريبة والبعيدة أنها غير مكترثة بمصالح الشعب السوري يتطلب الانطلاق من موقف وطني، والتشاور مع أبناء الوطن
وما الذي يدعو معارضين آخرين إلى التماهي مع الموقف الأميركي والفرنسي من الصراع السوري، الموقف المتعاطف نظريا مع الشعب السوري، متجاهلين السياسات العملية التي أوصلت المنطقة إلى ما هي عليه، من خلال دعم الانقلابات العسكرية وتقديم الدعم لأنظمة استبدادية؟ في الملف السوري، دعمت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، دخول الجيش الروسي إلى سورية، وسحبت بطاريات المضادّات الجوية "باتريوت" لتسمح للطيران الروسي بالتحليق في الأجواء السورية بأمان لضرب مقاتلي المعارضة، بينما رفضت قبل ذلك إعلان الأجواء السورية محميةً من طيران النظام الذي استخدم البراميل المتفجرة لتدمير المدن والقرى في المناطق المحرّرة، لمنعها من تثبيت سيطرتها على تلك المناطق، وإجبار النظام على التفاوض من أجل حل سلمي. لا يتعلق السؤال بالحاجة إلى التعاطي مع القوة الدولية والإقليمية النافذة في سورية، فهذا ضروري، ولكن التعاطي شيء والتماهي شيء آخر. التعاطي مع الدول النافذة التي أظهرت التجارب القريبة والبعيدة أنها غير مكترثة بمصالح الشعب السوري، بل مستعدّة لدعم من يترصد به في داخل البلاد وخارجها، يتطلب الانطلاق من موقف وطني، والتشاور مع أبناء الوطن والتماهي معهم، لا مع قوى الخارج، كما يتطلب رفض الخضوع لإملاءات خارجية تدفع الثورة السورية والحل السياسي للصراع السوري بعيدا عن الأهداف الوطنية التي انطلقت الثورة لتحقيقها.
الأمثلة كثيرة على ميل القيادات السياسية السورية إلى البحث عن داعم خارجي، على الرغم من إدراك الجميع أن الدعم المطلوب لن يأتي مجانا، بل ثمنه الارتهان للداعم الخارجي الذي غالبا ما يلجأ إلى توظيف هذا الدعم لتحقيق مصالحه على حساب مصلحة السوريين. لا ينحصر هذا السلوك فقط في سورية، بل نجده يتكرّر منذ عقود في العراق ولبنان ودول أخرى في المشرق العربي. قرن مضى منذ انطلاق الثورة العربية الكبرى التي تلقت غدر الحلفاء الأوروبيين، بعد نجاحها في إخراج الجيش الانقلابي التركي الذي مثّله جمال باشا السفاح من المشرق، والقيادات السياسية العربية تكرّر الخطأ الاستراتيجي نفسه الذي ساهم في تكريس التبعية والاستلاب، وحال دون تطوير مشروع وطني حقيقي، يسمح بتحرير الإنسان المشرقي، ليمارس دوره التاريخي في البناء والتطور. يمكن لبعضهم تلمّس الأعذار في أن شعوب المنطقة كانت إبّان الاستقلال مكبلةً بقيود الأمية والفقر والجهل، بيد أن هذه الأعذار غير مقبولة اليوم، بعد أن ارتفعت نسبة التعليم في الدول العربية، وأصبحت هذه الدول تمتلك قدراتٍ بشريةً، وخبرات علمية وتنظيمية، تمكّنها من تشكيل قوة إقليمية كبيرة، لو أن القيادات السياسية اجتمعت وتعاونت فيما بينها، وكرست جهودها لا للاقتتال الداخلي والصراع البيني، بل في تشجيع المبادرات البينية وتطوير دولة القانون والمؤسسات.
الجميع يريد دولة القانون والمؤسسات، ولكن قليلين من الناس يدركون أن هذه الدولة ليست مطلبا يتحقق عبر التمنّي والاستجداء
وهنا، في تقديري، تكمن مشكلة المجتمعات المشرقية والنخب السياسية التي تمثلها، فالجميع يريد دولة القانون والمؤسسات، ولكن قليلين من الناس يدركون أن هذه الدولة ليست مطلبا يتحقق عبر التمنّي والاستجداء، ولكنها ممارسة سلوكية تبدأ في انضباط سلوك الفرد والأسرة والمجتمع بالقيم التي ينبني القانون عليها ويعمل لحمايتها. فمن طبيعة الأشياء ألا تتحقّق قيم الحرية والمساواة والعدالة والانضباط المبدئي على المستوى السياسي، طالما بقيت غريبة عن ممارسات الناس على المستويين، الاجتماعي والأخلاقي. ومن الطبيعي ألا يلتزم السياسي بالشورى واحترام الرأي الآخر إذا لم يتعود على فعل ذلك في البيت والمدرسة والعمل، وضمن منظمات المجتمع ومؤسساته. قيام دولة القانون والمؤسسات يتطلب كتلة حرجة من المواطنين الذين ينضبط سلوكهم وفق قيم العدل والمساواة واحترام التنوع الديني والقومي والعقدي، ويقدّرون حرية المواطنين الذين يخالفونهم في الرأي وأسلوب الحياة في التعبير عن ذواتهم وخياراتهم. إذ لا يمكن لأي مجتمع سياسي أن يتضامن في صراعه مع خصومه الخارجيين، أو يتّحد في مواجهة الفساد السياسي والإداري، ما لم يتمسّك مواطنوه بمبادئ مشتركة، ويعترفوا بالحقوق المتساوية للجميع، ومن ثم يعملون جدّيا على حماية حقوق الجميع، حتى من يختلف معهم في الرأي والعقيدة السياسية والدينية. فتضامن المواطنين والوقوف صفا واحدا في مواجهة من يخالف القيم السياسية المشتركة، ويخلّ بمبدأ تساوي المواطنين في الكرامة الإنسانية، شرط ضروري لقيام دولة القانون والمؤسسات. وبدون هذا التضامن، تبقى فكرة القانون والمؤسسات والديمقراطية كلمات فارغة يستخدمها السياسيون في خطاباتهم وحملاتهم الدعائية، ولكنها غير قادرة على توجيه السلوك، ومنع الانحراف والعدوان. وما يجري اليوم في العراق وسورية ولبنان يقدم دليلا واضحا على أن الشعوب التي تقبل بالتبعية لقيادات طائفية وصلت إلى سدّة الحكم بدعم من يشاركها خصوصياتها الطائفية، تحكم على أنفسها بالانقسام والضعف والاستلاب لصاحب السلطة والحظوة الذي اعتاد أن يحكم من دون أن يجد من يسائله عن سياساته الخاطئة، والمجحفة بحق شرائح واسعة من أبناء الوطن.
المجتمعات والأوطان تُبنى بالمثال والنموذج والفعل والعمل المؤسسي، لا بالكلمات والخطاب السياسي المعسول
دولة الحريات والقانون التي يسعى إليها السوريون منذ عقود تتطلب أيضا بناء الثقة بين قيادات المعارضة، والعمل لتحقيق مصلحة جميع السوريين، لا فئة أو طائفة أو حزب على حساب المجتمع السياسي. لا يمكن أن يبدأ العمل الحزبي والتنافس السياسي جدّيا إلا بعد إنجاز النقلة الديمقراطية، فالمجتمعات والأوطان تُبنى بالمثال والنموذج والفعل والعمل المؤسسي، لا بالكلمات والخطاب السياسي المعسول، وبتوظيف المال السياسي والمحسوبيات لشراء الولاءات. مثل هذا السلوك الذي استمر عقودا في المؤسسات الرسمية السورية، والذي تسلل بعد سنة من انطلاق الثورة إلى مؤسسات المعارضة السورية، هو سبب الحال المزري الذي وصل إليه السوريون. ثمّة حاجة اليوم لاستيعاب الدرس، والسعي إلى العمل المشترك وتطوير مواقف ومبادرات تقدّم حقوق المواطنين وحاجاتهم على مصالح القوى الخارجية، وجعل الصوت السوري أكثر تناغما ومصداقية. السعي إلى الاستقواء بالخارج ضد المنافسين السياسيين هو الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه، كما أوصل من قبل دول الجوار إلى واقعٍ مشابه، وحال دون تطوير موقف وطني يعبر بوضوح عن حقوق السوريين ومصالحهم، وقاد إلى تعميق الشرخ داخل البيت السوري بين القوى المعارضة للنظام، وانتهى بإضعاف الجميع وتحويلهم رهائن لدى القوى الدولية والإقليمية على السواء.
الاعتماد على الخطاب السياسي المجرّد وغياب الجهود الحقيقية لتحقيق حالة من التشاور والتعاون والتكامل بين قوى المعارضة السورية ما زال هو محل ضعفها والمدخل إلى تفتيت جهودها وتوظيفها في خدمة مشاريع إقليمية ودولية، لا ناقة لها فيها ولا جمل! فهل تعيد قيادات المعارضة حساباتها ومواقفها، أم تستمر في الحفر تحت أقدامها، وتجريف الأرض الصلبة التي تقف عليها، والتي صنعها صمود الشعب السوري الحر واستعداده لتقديم كل غالٍ ورخيص لمواجهة الاستبداد؟ وهل سنجد تحرّكات من الناشطين السياسيين والقوى الوطنية لبناء الجسور وتطوير أقنية للحوار، وصولا إلى عمل استراتيجي مشترك، ينقذ الوطن مما وصل إليه من تمزّق وخراب، ويقدّم مبادرات وطنية تحظى بقبول واسع من أجل قطع الطريق على عبث تجار الحرب والدماء والخراب، وإنقاذ الشعب السوري من المأزق الذي يعيشه منذ سنوات؟