توأمة بين ووهان ورام الله
يتسلّل خبرٌ ضئيل القيمة، بين زوابع أخبار تشدّ الجميع إليها، أن اتفاقية توأمةٍ بين مدينتي ووهان ورام الله كانت واحدةً من أربع اتفاقياتٍ جرى توقيعُها بين الجانبين، الفلسطيني والصيني، بحضور الرئيسين، شي جين بينغ ومحمود عبّاس، في أثناء زيارة الأخير بكّين الأسبوع الماضي. ولمّا اعتصمت وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية عن إيضاح منطوق هاته الاتفاقية، فإن لقارئ الخبر الشديد الإيجاز أن يفترض أن الأمر لن يتعدّى صفته مجاملةً بين طرفيْن صديقيْن، وأن التوأمة بين مدينتين تعني تبادل زيارات وفودٍ ثقافيةٍ وسياحية وتنظيم تظاهراتٍ مشتركة. ولمّا كانت الاتفاقية الرابعة الموقّعة هناك تتعلّق بإرسال وفودٍ فنيةٍ (صينيّة طبعاً) لتنفيذ مشروعاتٍ عدة (صينيّة افتراضاً)، فلواحدِنا أن يحدَس بأن موظفين صينيين رفيعين سيزورون رام الله لاحقاً لتبيّن أوجه التوأمة المتّفق عليها. وفي الوقت نفسه، لأيٍّ منا أن يفترض أن القصّة كلها كلامٌ في كلام، فلا شيء سيجري في هذا الخصوص، فاتفاقياتٌ مثيلةٌ انعقدت بين مدنٍ عربيةٍ وأخرى في أميركا اللاتينية أو شرق آسيا أو عربية أحياناً لم تتعدّ ابتسامات الموقّعين عليها أمام الكاميرات. غير أن المرء لا يغادرُه هذا الخبر من دون أن تأتي إلى مداركِه ما أحرزته ووهان (11 مليون نسمة)، من شهرةٍ واسعةٍ في العالم، بعد أن صدّرت إلى البشرية قبل أكثر من ثلاث سنوات فيروس كوفيد – 19، والذي أحدَث ما نعرف من إغلاقاتٍ قاسية، وخسائر كبرى، وتسبّب بوفاة نحو 15 مليون شخص، بحسب أحدث تقديرات منظمة الصحة العالمية، بعد شهورٍ من إشهارها أنهم ستة ملايين.
وإذ يجوز أن يسأَل من صادَفه الخبر المذكور عمّ في وُسع ووهان أن تفيد به رام الله (والعكس صحيح؟)، فيما تتوطّن في الأذهان شهرتُها المقترنة بـ"كورونا المستجدّ". ومع ما يذكّر به أمرٌ كهذا من كآبةٍ غير منسية، فإن واحدةً من مفارقاتٍ، يزدحم بها الخبر المقتضب، أن دولاً غير قليلة (بينها قطر) استهلّت العام الحالي بفرض قيودٍ على القادمين إليها من الصين، وإجراء فحوصات لهم في المطارات، بسبب اكتشاف آلاف حالات الإصابة بكوفيد، بعد أيامٍ من إغلاق جزءٍ من مدينة ووهان نفسها (يقطنُه مليون شخص)، بسبب تأكّد وجود إصاباتٍ فيه. ومن متواليات هذا الأمر وحواشيه أن التوأمة بين رام الله والمدينة السابعة في الاكتظاظ السكّاني في الصين، والتي تقوم فيها صناعاتٌ للحديد والفولاذ والسيّارات، جاءت فيما الجدل يشتدّ بشأن ما لم يجر حسمُه بعد، ما إذا كان مختبرٌ هناك تسرّب منه الفيروس في مطلع عام 2020، أم إن منبتاً آخر له أشاع الوباء ثم الجائحة. وهذا الرئيس بايدن أصدر، قبل أسابيع، قراراً برفع السرّية عن معلومات عن منشأ كوفيد، أجازه مجلس النواب.
ولكن، لتُعطَ المخيّلة مساحاتٍ لها، فيقولُ من يقول إن صمود ووهان في التصدّي للفيروس، بإجراءات الإغلاق المشدّدة، والتزام سكّانها شديد الانضباط بإجراءات الحكومة وتعليماتها، مفيدٌ لرام الله وناسِها، وهم يتصدّون لفيروسٍ ما ينفكّ يفتك بالبلاد ولا يُغادرها، وهو فيروس الاحتلال المقيت. وللمخيّلة أن تجترح أسئلةً ذات صلة، من قبيل ما إذا كان الخيال السياسي لدى زائر بكّين محمود عبّاس قد شحّ، فلم يلقَ الرجل غير "التأكيد على الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين"، كما أذاعت أخبارٌ عن اجتماعاته مع الرئيس الصيني ورئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب، ما يستنفر سؤالاً عن مضمون هذه الشراكة، والذي يجعل لها هذه الصفة الاستراتيجية، سيما أن الصين، منذ أقامت العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في 1992، تستورد أسلحة وتقنياتٍ عسكرية متقدّمة، وأن شركات منها تستثمر في بناء المستوطنات، وأن اتفاقيات التعاون في الزراعة والتكنولوجيا والتعليم العالي والبحث العلمي والطب و... إلخ في اتّساع مضطّرد، ما يعني أن التحايل اللفظي في تصوير علاقةٍ استراتيجيةٍ بين الصين والفلسطينيين تدليسٌ، من البؤس أن يفترض الرئيس عبّاس إن في الوسع بيعَه على الفلسطينيين.
لمّا زار رئيس منظمة التحرير، أحمد الشقيري، مع وفد فلسطيني كبير، الصين، في 1965، سمع من الرئيس ماو تسي تونغ، إن "الإمبريالية تخشى من الصين والعرب. إسرائيل وفيرموزا (جمهورية تايوان) هما قاعدتا الإمبريالية في آسيا. إنكّم تشكلّون الخط الأمامي للقارّة الكبيرة، ونحن نشكّل الخط الخلفي. إنهم خلقوا إسرائيل عندكم وفيرموزا عندنا"... سقى الله، كيف نطلّ على ذلك الزمن، في زمن المصالح المتعاظمة بين الصين وإسرائيل، والتوأمة بين ووهان ورام الله؟.