توافق السوريين في الداخل هو الأساس
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
مع الحديث عن مساعٍ متعدّدة المصادر والأهداف، من أجل الدفع نحو حلٍّ ما يضع نهاية للحرب الروسية على أوكرانيا، خصوصا بعد الانسحاب الروسي اللافت من خيرسون، وهي الحرب التي باتت أزمة عالمية، ترهق كاهل الناس على المستوى المعيشي في الشرق والغرب، وكابوساً مرعباً ينذر بالأسوأ، سيما إذا ما ترجمت التهديدات الروسية الخاصة بإمكانية استخدام الأسلحة الأخطر على أرض الواقع؛ يتساءل المرء بينه وبين نفسه، أو في أثناء حواراته مع المهتمين المطلعين، عن طبيعة الصفقة التي يمكن أن تتم، والثمن الذي يمكن أن يُدفع.
هل ستقتصر الصفقة المحتملة على توافقاتٍ حدوديةٍ بين روسيا وأوكرانيا، وتفاهمات أطلسية روسية، حول مناطق التمدّد في أوروبا، وطبيعة التحالفات والاصطفافات التي يتزّعمها كل طرف؟ أم أننا سنشهد صفقة أشمل، وتفاهماتٍ أوسع نطاقاً تشمل مناطق أخرى، من ضمنها سورية التي ما زال الروس يعلنون عن حضورهم فيها، وتأثيرها في رسم ملامحها المستقبلية عبر عمليات القصف، وتسيير الدوريات، واستخدام المرتزقة، والتسويق لخديعة العودة الطوعية الآمنة للاجئين السوريين من دول الجوار في سياق ترويج سلطة الأسد، والعمل مع كل الجهات من أجل إعادة الأخيرة إلى الهيئات والتجمّعات الإقليمية والدولية؟
ولكن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقول المثل، فروسيا كنظام هي اليوم منبوذة نتيجة حربها على أوكرانيا، وانتهاكاتها بحق الأوكرانيين. كما أن سمعتها في الحضيض من جهة تخلّفها التقني حتى في المجال العسكري الذي كانت تتفاخر به، وتوحي بأنها قد حقّقت المعجزات فيه. بل كانت تتباهى بأنها قد جرّبت أحدث أسلحتها في قصف المشافي والمدارس والمناطق السكنية السورية.
قُدمت اقتراحات كثيرة بشأن المطلوب لمواجهة آثار الكارثة التي ألحقتها السلطة الأسدية بالسوريين وبلادهم
وبغض النظر عن حصيلة الجهود الساعية من أجل إيقاف الحرب على أوكرانيا، وبصرف النظر عن طبيعة الصفقات المحتملة ومجالها، تظل مهمة مواجهة تحدّيات حصيلة الحرب التي شنتها السلطة الأسدية على السوريين المناهضين لاستبدادها وفسادها وإفسادها بكل أنواع الأسلحة، وبالتنسيق والتشارك مع حلفائها من الروس والإيرانيين، والمليشيات المذهبية، مهمة السوريين الذين لا يمكنهم أن يكونوا فاعلين مؤثرين، إذا ما ظلّ تشتّتهم على حاله، وظلوا منفعلين متلقين الأوامر والتعليمات في مواجهة مخططات (ومساعي) تعويم سلطة الأسد، والانفتاح عليها تحت ستار شعارات خادعة مضلّلة منها: سياسة الخطوة خطوة، وتعديل سلوكية سلطة الأسد، أو موجبات المحافظة على وحدة سورية وسلامتها.
لقد قُدمت اقتراحات كثيرة بشأن المطلوب لمواجهة آثار الكارثة التي ألحقتها السلطة الأسدية بالسوريين وبلادهم، وذلك في اللقاءات العلنية والخاصة، والكتابات المختلفة التي تمحورت حول الهم السوري؛ كما قُدّمت أفكار حول كيفية الخروج من الاستعصاء الحاصل الناجم عن سلبية المجتمع الدولي تجاه ما جرى، ويجري، في سورية، واكتفائه بخيار إدارة الأزمة وليس معالجتها.
وعلى الصعيد السوري، هناك من جهة سلطة معادية للشعب، مستعدّة للاتفاق مع أيٍّ كان، وفتح البلاد أمام جميع شذّاذ الآفاق من أجل أن تستمرّ. ومن جهة ثانية، هناك "المعارضات الرسمية" التي باتت مجرّد أدوات في حسابات الدول، تتحرّك بموجب أوامر (وتعليمات) الأجهزة التي تراعي في المقام الأول أولويات دولها ومصالحها.
تعلّم السوريون الغيارى على شعبهم ووطنهم في الداخل من كيسهم
ولتجاوز هذا الواقع الذي يؤلم السوريين، ويساهم في استمرارية مأساتهم، كانت هناك محاولات كثيرة في عدد من الأماكن، استهدفت تقديم البديل الوطني السوري، الملتزم بالأولويات السورية التي ترتقي إلى مستوى تضحيات السوريين وتطلعاتهم، غير أن تلك المحاولات لم تصل بعد إلى شاطئ الأمان المطلوب بكل أسف، وذلك نتيجة عوامل عديدة، منها النزعة الفردية والشللية والحسابات الخاصة، وعدم القدرة على التزام قواعد العمل الجماعي واحترامها، إلا أن العامل الرئيس يتمثل في التباين الذي يتبلور بين المعارضين في الداخل والخارج، من جهة الرؤية والموقف.
ولعل من نافل القول أن يُشار، في هذا السياق، إلى أن المعنيين بمعارضي الداخل ليسوا أولئك المدجّنين الذين أصبحوا بهذه الصورة أو تلك حالة امتداد للسلطة الأسدية نفسها، وإنما المقصود بهم أوساط التنسيقيات الشبابية، ومنظمات المجتمع المدني التي ظلّت محتفظة بروحيتها الوطنية، ولم تتلوّث بالمال الفاسد، وبالخطاب الطائفي البغيض، أو العنصري القوموي المقيت. هذا بالإضافة إلى المفكرين والناشطين من المثقفين والإعلاميين والفاعلين المجتمعيين، ممن لم يتحوّلوا إلى أدوات بيد السلطة الأسدية وواجهاتها.
لقد تعلّم السوريون الغيارى على شعبهم ووطنهم في الداخل من كيسهم إذا صحّ التعبير، فقد تلمسوا بالقرائن والأدلة الملموسة زيف المزاعم العلمانية واليسارية من جانب أتباع "محور المقاومة"، وتبيّن لهم حجم الاتجار بالشعارات الدينية الإسلاموية والقوموية بكل ألوانها، لا سيما تلك العابرة للحدود؛ كما اكتشفوا بالتجربة والبرهان الوجه الإجرامي الإفسادي لسلطة آل الأسد، وهي السلطة التي فتحت البلاد أمام الجيوش والمليشيات وشذّاذ الآفاق، لدعمها في حربها على السوريين الثائرين عليها.
أسهمت ظروف النزوح، رغم صعوبتها، في تهيئة الأجواء لتمكين السوريين من مختلف المناطق من التواصل وبناء جسور الثقة والتعارف في ما بينهم
وبناء على ذلك، ربما يكون من الأنسب والأكثر صوابية أن تبدأ المبادرات من جانب من ظلوا في الداخل، ولم يتأثروا، رغم كل ما حدث، بالجهود التفتيتية التي بذلتها السلطة، والقوى الأخرى التي تكاملت معها من مواقع مختلفة، سواء باسم الموالاة أم باسم المعارضة، التي استهدفت بناء جدران التوجّس وعدم الثقة، بل الكراهية والأحقاد، بين السوريين في مختلف المناطق ومن مختلف الانتماءات، فهؤلاء في مقدورهم التواصل مع الناشطين السوريين الفاعلين في مختلف المناطق، وبغضّ النظر عن انتماءاتهم المجتمعية والتوصيفات النمطية التي تأخذ في اعتبارها عادة المناطق التي يسكنون فيها. ولكن شرط أن يلتزموا الخطاب الوطني الجامع الذي يؤكّد أهمية وحدة النسيج المجتمعي الوطني السوري، ويطمئن سائر المكونات على أرضية احترام الخصوصيات والاعتراف بالحقوق.
وقد أسهمت ظروف النزوح، رغم صعوبتها، في تهيئة الأجواء لتمكين السوريين من مختلف المناطق من التواصل وبناء جسور الثقة والتعارف في ما بينهم، الأمر الذي يساعدهم على تفهّم طبيعة القضايا والمظلوميات التي كانت السلطة تتستّر عليها لتكون هي المتحكّمة بكل الخيوط، فنشطاء الداخل وأصحاب الخبرات ممن ما زالوا أوفياء لمطالبات السوريين المشروعة بالقطع مع الاستبداد والفساد، وضمان مقوّمات العيش الحر الكريم، يمكنهم أن يتواصلوا ويلتقوا بمختلف الأشكال، ليتحاوروا ويتوافقوا على توحيد الطاقات وتنظيمها. وفي استطاعتهم من مواقعهم الميدانية بين السوريين في الداخل أن يقدّموا تصوّراً أكثر واقعية وقابلية للتحقيق.
التواصل ضروري ومفيد، على أن يكون العمل المشترك المطلوب بشروط الداخل ومقتضياته، وليس العكس
ولكن هذا لا يمنع التواصل بين هؤلاء والسوريين المناهضين لسلطة آل الأسد في الخارج، سواء في الجوار الإقليمي أم في أوروبا والولايات المتحدة وسائر الدول. بل إن هذا التواصل ضروري ومفيد، على أن يكون العمل المشترك المطلوب بشروط الداخل ومقتضياته، وليس العكس. ولكن من دون أن يصل الأمر إلى اعتماد المفاهيم الإشكالية التي اعتمدتها بعض أطراف المعارضة السورية في بدايات الثورة، مثل "معارضة الداخل" و"معارضة الخارج"، واتهام الأولى الأخيرة بأنها من أنصار التدخل الخارجي والعسكرة. أو اتهام الثانية الأولى بقربها من السلطة، وغير ذلك من الاتهامات، والأحكام المسبقة التي لم تخدم السوريين وثورتهم قط، بل استفادت منها السلطة في جميع الأحوال. وإنما الذي ندعو إليه هو حالة تفاعلية بين الداخل والخارج، يكون للداخل بموجبها وزنه الذي يستحقّ، ودوره المؤثر لا التابع أو المتروك، وذلك تحاشياً لتحوّل الداخل إلى فريسة للقوى المتطرّفة بمشاريعها المختلفة التي لا تتوافق مع مصلحة السوريين.
يحتاج السوريون إلى تعزيز الثقة في ما بينهم، والوصول إلى مرحلة اليقين القطعي بأن توافقهم وحرصهم على العيش المشترك هو المدخل المطلوب إلى المشروع الوطني السوري الجامع، الذي يطمئن سائر السوريين من دون أي تمييز أو تهميش، وهو المشروع الذي من شأنه، إذا التزمناه بصدق وإخلاص، أن يضع حدّا لمعاناة شعبنا، بل يفتح الآفاق أمام حلّ واقعي مقبول مستدام يضمن مستقبلاً أفضل لأجيالنا المقبلة.
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.